الراسمال الثقافي عند بيير بورديو



الراسمال الثقافي عند بيير بورديو

اذا كان الرأسمال الاقتصادي هو مجموع العائدات والثروات الاقتصادية للفرد واذا كان الرأسمال الاجتماعي هو الثروات الناتجة عن اقامة شبكة مستقرة من العلاقات التفاعلية والتعارفية فإن الرأسمال الثقافي هو رأسمال رمزي يحظى بتقدير معنوي من قبل أفراد المجتمع ويتكون من المؤهلات والقدرات التي يحصل عليها الفرد نتيجة التعليم والرغبة في المعرفة والبحث المتواصل والاجتهاد العلمي والتجربة التاريخية المتركمة والعمل الجماعي الدؤوب والمثابر.

على هذا النحو إن الرأسمال الثقافي هو مصطلح سوسيولوجي بلوره بورديو وأضافه الى مصطلحات الرأسمال المادي والرأسمال الاجتماعي والرأسمال الاقتصادي ويعني به مجموع المنابت والينابيع والمصادر الثقافية التي ينهل منها الفرد وتتوزع الى العادات والتقاليد والأعراف والسرديات والأساطير والرمز والدين والفنون. كما يفيد جملة المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي وتشكل أحد أدوات التحكم والتوجيه والتأثير في الفرد ويتم مراكمتها عبر الزمن وتمريرها من شخص الى آخر عن طريق المحاكاة والمشاركة والتقليد ويمكن كذلك نقلها من جيل الى آخر عبر آلية اعادة الانتاج واحترام النفوذ. بناء على ذلك ان الرأسمال الثقافي يحصل عليه المرء بعد مراكمة للتجارب المتنوعة ومثابرة في العمل ويعطيه نوعا من الامتيازات في المجتمع ويتوزع الرأسمال الثقافي الى ثلاثة عناصر هي شكل متسجد في الهابيتوس الثقافي وتكمن وظيفته في جعل الانسان كائنا اجتماعيا ومشاركا في الفضاء العام، وشكل مموضع في مستوى ثان يتكون من منافع ثقافية وخيرات رمزية مثل الكتب والآثار الفنية والأدوات الرقمية وتتمثل مهمتها في حزن وحفظ العناصر الثقافية، وشكل مؤسساتي في مقام ثالث ويتمثل في العناوين المدرسية والمتاحف والمكتبات ودور الثقافة والمسرح والسينما وتتمثل مهمته في عرضه للمنتوجات الثقافية للفرجة والتقبل والتداول التوزيع والاستعراض والاستهلاك وبالتالي تتحول هذه المؤسسات الى سوق ثقافي. هكذا يقوم بيير بورديو بتعريف الطبقة الاجتماعية وتمايزها عن غيرها وفق حجم وبنية الرأسمال الثقافي الذي تمتلكه، وبالتالي هناك طبقة اجتماعية تكون قادرة على امتلاك نظرية مجردة بينما تحوز طبقات شعبية أخرى على منتوجات متعينة ومعطيات تجريبية لا تدوم بل تنقضي بمجرد استهلاكها من قبل المتلقين.

لقد جعل بورديو من التمايز Distinction  معيارا للنقد الاجتماعي لملكة الذوق وقام بعملية قلب لمقولات الجمال والفن والثقافة التي لم تخضع البتة الى المساءلة من قبل. وبيّن أن الجمال ليس مفهوما قبليا ولا غائية دون غاية وإنما الناس يذوقون من خلال خبراتهم الثقافية وتكوينهم العلمي والشهادة الأكاديمية الحائزين عليها وبالاعتماد على موقعهم الطبقي في المجتمع الذي ينتمون اليه. غير أن المفارقة تظهر حينما لا يتناسب الرأسمال الثقافي للطبقة المهيمنة مع الرأسمال الاقتصادي الذي تمتلكه فهو أقل بكثير وفي حالات نادرة أكبر بكثير ويرجع ذلك الى اضطراب نظام التعليم وخلل في المبادئ التوجيهية للفعل وتباين أنماط الحياة وتضارب المواقف والمصالح الايديولوجية للطبقات.

هكذا ينظم التمايز الفاعلين الاجتماعيين داخل الفضاء الاجتماعي في اطار مواقع مختلفة من أجل لعب أدوار متكاملة تجعل من الهابيتوس يحافظ على جاهزيته ويحقق تماسك النسيج العمومي، كما يربط التحليل المعرفي للمجتمع بالنقد الاجتماعي للثقافة واستعمالاتها كوسائل للهيمنة والتحكم ويخضع التمييز بين الحسن والقبيح وبين الغالي والرخيص وبين اللامع والمتهرئ الى الموقع الطبقي.

من هذا المنطلق يعرف بورديو المجتمع على أنه تركيب حقول وتنضيد مجالات مثل الاقتصاد والفن والدين والرياضة والثقافة ويحدد الحقل بكونه فضاء اجتماعي يخضع لقواعد لعبة تنافسية معينة ويسيره منطق ويتموقع فيه الفاعلون حسب دورهم في اللعب ومصالحهم ورهاناتهم من الاندماج في المجتمع. غني عن البيان أن مفهوم اعادة الانتاج هو نوع من العنف الرمزي الذي يمارسه النظام التربوي من أجل اجبار المتعلمين على الخضوع للمنطق الاجتماعي السائد والمحافظة على النظام السياسي القائم. كما تتميز نظرية الفضاء الاجتماعي بمنطق تكوين المجموعات بالاعتماد على البناء الهرمي وأساليب الحياة والصراعات التي تخترق هذه المجموعات وكيفيات اعادة انتاج التراتبية الاجتماعية.

بالرغم أن الثقافة التقليدية  تخضع للنقد من طرف الثقافة الجديدة من زاوية النمو الاقتصادي والمنزلة القانونية إلا أنها تظل مصدر الحرية الانسانية وتمنح الأفراد الملاذ الآمن للشعور بالانتماء والانفتاح. اذا كان الحقل الاجتماعي يتكون من مجموعة من القوى المتصارعة والمتنافسة فإن المبدأ المحرك للقوى هو الصراع قصد التمايز ضمن الإطار الذي يربط بين الرأسمال الثقافي بالرأسمال الاقتصادي. غير أن بورديو يكشف عن رؤيته الجذرية للمجتمع حينما ينتبه الى الفارق بين آليتي التطابقConformité   والتمايز داخل الفضاء الاجتماعي وبين الفاعلين الاجتماعيين والمهمّشين الذين يتم استبعادهم وازدرائهم. زد على ذلك يشير العنف الرمزي الى كل سلطة تتمكن من فرض دلالات معينة وتصبغ عليها الصفة الشرعية من خلال اخفاء علاقات القوة التي تتأسس عليها هذه السلطة. لذلك تتمثل وظيفة هذا المعطى في كونه يعكس علاقات الهيمنة التي يتم استبطانها من قبل الفاعلين حسب موقعهم في الحقل الاجتماعي ونوعية رأس المال الذي يمتلكونه ويستند الى شرعية مخططات التراتبية الاجتماعية. بناء على ذلك لا يتعلق الأمر بعنف بيذاتي Inter-subjectif يمارسه انسان ضد انسان آخر بل بعنف بنيوي مهيكل عن طريق المؤسسات وبهيمنة بنيوية تنطلق من موقع في مواجهة وظيفية لموقع آخر. كما يحدث في المجتمع صراع على التصنيف ويوجد قطبان متقابلان حيث يحتكر الأول السلطة ويمارس نوع من النفوذ في حين أن البقية تبقى في موقع متدني وتسقط في نوع من التبعية والخضوع. كما أن البنى التي يمارس من خلالها الأفراد الهيمنة على المجموعات وفق بناء هرمي وترتيب تفاضلي هي مرتبط برؤوس المال الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والرمزية التي يحوزون عليها.

على هذا النحو تمارس البنية الاجتماعية نوعا من العنف الرمزي على الأفراد لأنها مخفية عن الوعي الجماعي وغير مدركة من قبلهم ويكون مصدر شعور بالدونية والغبن والازدراء واللاّمعنى وفقدان الدلالة بالنسبة اليهم. كما ترتبط الهيمنة الذكورية بنوع من العنف الرمزي الذي يمارس على المرأة من خلال التقسيم الجنسي للعمل وإعادة انتاج نفس البنى التقليدية في النشاطات الانتاجية والمحافظة على أـولوية الذكور على الإناث في العملية التبادلية والاستهلاكية والتفاوت في التمتع بالأرباح والخيرات وفي قيمة الأجور.

« L’effet de la domination symbolique s’exerce non dans la logique pure des consciences connaissantes, mais à travers les schèmes de perception, d’appréciation et d’action qui sont constitutifs des habitus et qui fondent, en deca des décisions de la conscience et des contrôles de la volonté, une relation de connaissance profondément obscure à elle-même. »[7]

يترتب عن ذلك أن العنف السياسي ليس فقط استبداد الدولة وممارستها الاكراه والقسر والتطويع والإجبار للأفراد والجماعات على الطاعة والخضوع بل هو بالخصوص نظام اجتماعي وسياسي وثقافي يقوم بإدخال علاقات الهيمنة الى النفوس ويدفع الأفراد الى الاعتراف الطوعي بالتقسيم التفاضلي التراتبي للمجتمع بوصفه نظاما بديهيا وعلاقة طبيعية بين الحاكم والمحكومين. كما تمارس الدولة العنف الرمزي عن طريق القوانين في البنى الموضوعية وبالتوافق مع البنى اللاوعية المدخلة والمشرعنة للهيمنة ومن خلال المقولات الادراكية في البنى الذاتية المفروضة بواسطة القوانين.

على هذا النحو تمارس نظرية العنف الرمزي المشروع نوعا من النفوذ على نظرية اعادة الانتاج التي تجعل من العنف مكونا بنائيا للاجتماعي وتبني من السلطة المجهولة مؤسسات تفتن بسحرها الجميع.

عندئذ يمارس العنف الرمزي من خلال الرضا بقوانين السلطة والقبول الضمني للخاضعين بالمقولات الفكرية والدلالات الشرعية والحرص على المحافظة على النظام الاجتماعي القائم وتسلسله الهرمي.

لقد أحدث بورديو ثورة معرفية ليس فقط في علاقة النظرية بالممارسة حينما جعل المثقف المشاكس ينخرط في الصراع الاجتماعي والسياسي ويشارك في التغيير بل في التصورات الاستراتيجية التي تسعى الى تطوير العلاقة بين القوة المادية والرمزية بين الأجناس وتخلصها من الاستبعاد والعنف.

خاتمة:

«  Structure structurante, qui organise les pratiques et la perception des pratiques, l’habitus est aussi structure structurée : le principe de division en classes logiques qui organise la perception du monde social est lui-même le produit de l’incorporation de la division en classes sociales »[8].

في نهاية المطاف ساعد المنهج البنيوي التكويني بيير بورديو على النظر الى الصراعات الاجتماعية داخل الحقول الاجتماعية لا بوصفها احتدام بين الطبقات من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج المادية وعلى ملكية رأس المال الاقتصادي وما يرافق ذلك من عنف فيزيائي مادي بل النظر اليها كنزاع حول رأس المال الثقافي بوصفه رأس المال الرمزي ومن أجل التمايز الاجتماعي وما يستوجب ذلك من عنف رمزي داخل الحقل الحيوي والمحتوى الثقافي ومن اعادة انتاج لاواعية للمنزلة الطبقية للفاعلين.

لقد أقام بورديو الثيمة الاجتماعية على جملة من العناصر هي نسق من المواقف والمصالح بالنسبة الى الفاعلين الاجتماعيين وتفاعل بين حلقات مترابطة في هذا النسق تتكون من جملة من الأبعاد الايديولوجية والرمزية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية و ومن عدد من المؤسسات والهياكل التي تتراوح بين الذاتي والموضوعي وبين الفردي والجماعي وبين الخاص والمشترك وبين الخارج والداخل.

اللافت للنظر أن حجر الزاوية في النظرية الاجتماعية الجذرية عند بيير بورديو هو الهابيتوس الذي يقف وراء وعي الأفراد بتكويناتهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية ويتحكم في أعمالهم وأفكارهم ويوجه سلوكاتهم ومواقفهم ويحدد ردود أفعالهم ونظرتهم الى الكون من خلال مرجعية لاواعية. ويدل مفهوم الهابيتوس على منظومة الاستعدادات البعدية  التي يكتسبها المرء عبر التجارب التاريخية وتتضمن جملة تصورات الإدراك والتقويم والفعل التي طبعها المحيط  الاجتماعي بمرور الزمن في الشخصية.
 

اذا كان الهابيتوس يتوسط الأفعال الفردية والعلاقات الجماعية فإنه يتحول الى شرط لازم ينتج عمليات التقويم ويضفي المشروعية على البناء الهرمي للمجتمع والتراتبية الطبقية والتمايز في المكانة والقيم.  لا يمكن التحليل الاقتصادي الماركسي وفرضية صراع الطبقات على رأس المال المادي من تفسير استراتيجية اعادة انتاج النسق الاجتماعي لذلك يلجئ بورديو الى توظيف فرضيات رأسمال الثقافي والعنف الرمزي والهابيتوس من أجل الكشف عن الصراع الطبقي الرمزي من أجل التنافس على فائض القيمة وامتلاك الرأسمال المادي والرمزي ويعتبر رأس المال الثقافي من الشروط المولد للتكرار وإعادة انتاج نفس المدى الحيوي ونفس البناء الهرمي للحقل الاجتماعي
.

كما تلعب المؤسسات السياسية والقانونية والتربوية دورا بارزا في تفعيل استراتيجية اعادة الانتاج وبالخصوص المؤسسات التعليمية وذلك من خلال فرض التعسف الفكري وتمرير العنف الرمزي واجبار المتعلمين على طاعة القوانين والمحافظة على الواقع السائد وتحويل مجال التربية الى حيز تقر فيه الدولة جملة من التدابير السياسية التي ترعى بها الطبقة المهيمنة لمصالحها وتحمي بها نفسها.

 هكذا يغيب الحياد المطلق للمنظومة التربوية وتتحول المدرسة الى أداة في يد الدولة تخدم مصالح طبقية وذلك بإعادة انتاج نفس الحصص للمتنافسين وتكريس عدم تكافؤ الفرص بين المتعلمين وتتحول التربية الى بؤرة استقطاب كل التوجهات والمركز المتميز لرصد الإجماع والحفاظ على تماسك المجتمع. في هذا السياق  رفض بورديو أن تتحول الجامعة الى مؤسسة تابعة للأنظمة الادارية البيروقراطية للدولة وأن تعيد انتاج نظام الهيمنة السياسية السائدة، ولذلك عندما كان بصدد تسجيل أطروحته في الدكتوراه لفت الانتباه بموقفه الشجاع وتمرده على القوانين الجامعية السائدة وأعلن عصيانه على الأطر التنظيمية والتحكيمية. وبالتالي فقد كان بورديو من بين القلائل الذين ظهر نبوغهم وعبقريتهم في اختصاصهم السوسيولوجي رغم رفضه فكرة الحصول على شهادة الدكتوراه بتقديم بعض التنازلات وإعلان تقاليد الولاء والخضوع للسلطة الجامعية وذلك لعدم اقتناعه بهذا الصنيع  وبرر ذلك بأن الامتحانات والمباريات والشواهد هي آليات تعيد انتاج النسق المغلق وانتزاع السلطة وامتلاك الشرعية وإنتاج وإعادة انتاج نفس التدابير المعرفية والثقافية من طرف الطبقة المهيمنة.

« L’organisation même de l’institution, les filières qu’elle proposait, les enseignements qu’elle assurait, les titres qu’elle décernait, reposaient sur des coupures tranchées, des frontières nettes, la division entre le primaire et le secondaire déterminant des différences systématiques dans toutes les dimensions de la culture enseignée, des méthodes d’enseignement, des carrières promises. »[9]
 

لقد فسر بورديو حدوث أزمات في المشهد التربوي بنظرية التعسف الثقافي وارتباط النجاح بامتلاك رأسمال الرمزي والثقافي وكشف عن وجود علاقة بين لاتكافؤ الفرض بين المتعلمين وآليات اعادة انتاج نفس البناء الهرمي في المجتمع والتراتبية التقليدية في الميدان السياسي وانتبه الى تحول الحقل التعليمي الى حقل خصب لامتلاك الشرعية نقلها من مجموعة الى فئة أخرى ونادى بالإنصاف وتمكين المتعلمين من نفس الحظوظ وتوزيع الشرعية بشكل عادل على الفاعلين والمنتجين والمتعلمين. غاية المراد أن دور الفاعل التربوي ليست اثارة وتنمية جيل الراشدين لدى لأطفال الذين لم ينضجوا بعد عدد معين من الحالات الجسدية الفعلية والأخلاقية التي يتطلبها منه المجتمع بما يجعلهم يتكيفون مع بنيته الخاصة بل يحول التمدرس الى وضعية للالتحام والإدماج والإندماج والتجسد ويجعل رأسمال الرمزي ويتموضع في مؤسسات ويصبح نموذج مثالي للاستثمار الثقافي والأخلاقي ونسق مفتوح من الحقول الحيوية المتداخلة
.

«  L’Ecole enfin, lors même qu’elle est affranchie de l’emprise de l’Eglise, continue de transmettre les présupposés de la représentation patriarcale (fondée sur l’homologie entre relation homme/femme et relation adulte/enfant) et surtout, peut-être, ceux qui sont inscrits dans ses propres structures hiérarchique »[10].

في الختام قام بورديو برحلة استكشافية احتجاجية في أروقة العولمة المتوحشة مبينا بؤس العالم وموظفا المعرفة الاستقصائية في خدمة المضطهدين بعيدا عن الاختصاص العميق ودون الاستنجاد بصفحات الكتب الجاهزة ومكتفيا بمحاورة البشر في ظروف حياتهم اليومية وقراءة ظروفهم المعيشية على ضوء التجربة التاريخية والمنعطفات الاجتماعية والسياسات المتبعة. لقد تفطن بورديو الى معاناة الناس من الكبت والحرمان وانتبه الى العنف الرمزي والاستبعاد الاجتماعي والقسوة التي تعصف بالأجساد والى الدوار الذي يغمي الأرواح والوعي المغترب الذي يطمس جوهر الانسان ويجعل من بؤس العالم مصدر بؤس للإنسان وسبب عجزه عن خلق عالم جيد.

المصادر والمراجع:

اذا كان الرأسمال الاقتصادي هو مجموع العائدات والثروات الاقتصادية للفرد واذا كان الرأسمال الاجتماعي هو الثروات الناتجة عن اقامة شبكة مستقرة من العلاقات التفاعلية والتعارفية فإن الرأسمال الثقافي هو رأسمال رمزي يحظى بتقدير معنوي من قبل أفراد المجتمع ويتكون من المؤهلات والقدرات التي يحصل عليها الفرد نتيجة التعليم والرغبة في المعرفة والبحث المتواصل والاجتهاد العلمي والتجربة التاريخية المتركمة والعمل الجماعي الدؤوب والمثابر.

على هذا النحو إن الرأسمال الثقافي هو مصطلح سوسيولوجي بلوره بورديو وأضافه الى مصطلحات الرأسمال المادي والرأسمال الاجتماعي والرأسمال الاقتصادي ويعني به مجموع المنابت والينابيع والمصادر الثقافية التي ينهل منها الفرد وتتوزع الى العادات والتقاليد والأعراف والسرديات والأساطير والرمز والدين والفنون. كما يفيد جملة المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي وتشكل أحد أدوات التحكم والتوجيه والتأثير في الفرد ويتم مراكمتها عبر الزمن وتمريرها من شخص الى آخر عن طريق المحاكاة والمشاركة والتقليد ويمكن كذلك نقلها من جيل الى آخر عبر آلية اعادة الانتاج واحترام النفوذ. بناء على ذلك ان الرأسمال الثقافي يحصل عليه المرء بعد مراكمة للتجارب المتنوعة ومثابرة في العمل ويعطيه نوعا من الامتيازات في المجتمع ويتوزع الرأسمال الثقافي الى ثلاثة عناصر هي شكل متسجد في الهابيتوس الثقافي وتكمن وظيفته في جعل الانسان كائنا اجتماعيا ومشاركا في الفضاء العام، وشكل مموضع في مستوى ثان يتكون من منافع ثقافية وخيرات رمزية مثل الكتب والآثار الفنية والأدوات الرقمية وتتمثل مهمتها في حزن وحفظ العناصر الثقافية، وشكل مؤسساتي في مقام ثالث ويتمثل في العناوين المدرسية والمتاحف والمكتبات ودور الثقافة والمسرح والسينما وتتمثل مهمته في عرضه للمنتوجات الثقافية للفرجة والتقبل والتداول التوزيع والاستعراض والاستهلاك وبالتالي تتحول هذه المؤسسات الى سوق ثقافي. هكذا يقوم بيير بورديو بتعريف الطبقة الاجتماعية وتمايزها عن غيرها وفق حجم وبنية الرأسمال الثقافي الذي تمتلكه، وبالتالي هناك طبقة اجتماعية تكون قادرة على امتلاك نظرية مجردة بينما تحوز طبقات شعبية أخرى على منتوجات متعينة ومعطيات تجريبية لا تدوم بل تنقضي بمجرد استهلاكها من قبل المتلقين.

لقد جعل بورديو من التمايز Distinction  معيارا للنقد الاجتماعي لملكة الذوق وقام بعملية قلب لمقولات الجمال والفن والثقافة التي لم تخضع البتة الى المساءلة من قبل. وبيّن أن الجمال ليس مفهوما قبليا ولا غائية دون غاية وإنما الناس يذوقون من خلال خبراتهم الثقافية وتكوينهم العلمي والشهادة الأكاديمية الحائزين عليها وبالاعتماد على موقعهم الطبقي في المجتمع الذي ينتمون اليه. غير أن المفارقة تظهر حينما لا يتناسب الرأسمال الثقافي للطبقة المهيمنة مع الرأسمال الاقتصادي الذي تمتلكه فهو أقل بكثير وفي حالات نادرة أكبر بكثير ويرجع ذلك الى اضطراب نظام التعليم وخلل في المبادئ التوجيهية للفعل وتباين أنماط الحياة وتضارب المواقف والمصالح الايديولوجية للطبقات.

هكذا ينظم التمايز الفاعلين الاجتماعيين داخل الفضاء الاجتماعي في اطار مواقع مختلفة من أجل لعب أدوار متكاملة تجعل من الهابيتوس يحافظ على جاهزيته ويحقق تماسك النسيج العمومي، كما يربط التحليل المعرفي للمجتمع بالنقد الاجتماعي للثقافة واستعمالاتها كوسائل للهيمنة والتحكم ويخضع التمييز بين الحسن والقبيح وبين الغالي والرخيص وبين اللامع والمتهرئ الى الموقع الطبقي.

من هذا المنطلق يعرف بورديو المجتمع على أنه تركيب حقول وتنضيد مجالات مثل الاقتصاد والفن والدين والرياضة والثقافة ويحدد الحقل بكونه فضاء اجتماعي يخضع لقواعد لعبة تنافسية معينة ويسيره منطق ويتموقع فيه الفاعلون حسب دورهم في اللعب ومصالحهم ورهاناتهم من الاندماج في المجتمع. غني عن البيان أن مفهوم اعادة الانتاج هو نوع من العنف الرمزي الذي يمارسه النظام التربوي من أجل اجبار المتعلمين على الخضوع للمنطق الاجتماعي السائد والمحافظة على النظام السياسي القائم. كما تتميز نظرية الفضاء الاجتماعي بمنطق تكوين المجموعات بالاعتماد على البناء الهرمي وأساليب الحياة والصراعات التي تخترق هذه المجموعات وكيفيات اعادة انتاج التراتبية الاجتماعية.

بالرغم أن الثقافة التقليدية  تخضع للنقد من طرف الثقافة الجديدة من زاوية النمو الاقتصادي والمنزلة القانونية إلا أنها تظل مصدر الحرية الانسانية وتمنح الأفراد الملاذ الآمن للشعور بالانتماء والانفتاح. اذا كان الحقل الاجتماعي يتكون من مجموعة من القوى المتصارعة والمتنافسة فإن المبدأ المحرك للقوى هو الصراع قصد التمايز ضمن الإطار الذي يربط بين الرأسمال الثقافي بالرأسمال الاقتصادي. غير أن بورديو يكشف عن رؤيته الجذرية للمجتمع حينما ينتبه الى الفارق بين آليتي التطابقConformité   والتمايز داخل الفضاء الاجتماعي وبين الفاعلين الاجتماعيين والمهمّشين الذين يتم استبعادهم وازدرائهم. زد على ذلك يشير العنف الرمزي الى كل سلطة تتمكن من فرض دلالات معينة وتصبغ عليها الصفة الشرعية من خلال اخفاء علاقات القوة التي تتأسس عليها هذه السلطة. لذلك تتمثل وظيفة هذا المعطى في كونه يعكس علاقات الهيمنة التي يتم استبطانها من قبل الفاعلين حسب موقعهم في الحقل الاجتماعي ونوعية رأس المال الذي يمتلكونه ويستند الى شرعية مخططات التراتبية الاجتماعية. بناء على ذلك لا يتعلق الأمر بعنف بيذاتي Inter-subjectif يمارسه انسان ضد انسان آخر بل بعنف بنيوي مهيكل عن طريق المؤسسات وبهيمنة بنيوية تنطلق من موقع في مواجهة وظيفية لموقع آخر. كما يحدث في المجتمع صراع على التصنيف ويوجد قطبان متقابلان حيث يحتكر الأول السلطة ويمارس نوع من النفوذ في حين أن البقية تبقى في موقع متدني وتسقط في نوع من التبعية والخضوع. كما أن البنى التي يمارس من خلالها الأفراد الهيمنة على المجموعات وفق بناء هرمي وترتيب تفاضلي هي مرتبط برؤوس المال الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والرمزية التي يحوزون عليها.

على هذا النحو تمارس البنية الاجتماعية نوعا من العنف الرمزي على الأفراد لأنها مخفية عن الوعي الجماعي وغير مدركة من قبلهم ويكون مصدر شعور بالدونية والغبن والازدراء واللاّمعنى وفقدان الدلالة بالنسبة اليهم. كما ترتبط الهيمنة الذكورية بنوع من العنف الرمزي الذي يمارس على المرأة من خلال التقسيم الجنسي للعمل وإعادة انتاج نفس البنى التقليدية في النشاطات الانتاجية والمحافظة على أـولوية الذكور على الإناث في العملية التبادلية والاستهلاكية والتفاوت في التمتع بالأرباح والخيرات وفي قيمة الأجور.

« L’effet de la domination symbolique s’exerce non dans la logique pure des consciences connaissantes, mais à travers les schèmes de perception, d’appréciation et d’action qui sont constitutifs des habitus et qui fondent, en deca des décisions de la conscience et des contrôles de la volonté, une relation de connaissance profondément obscure à elle-même. »[7]

يترتب عن ذلك أن العنف السياسي ليس فقط استبداد الدولة وممارستها الاكراه والقسر والتطويع والإجبار للأفراد والجماعات على الطاعة والخضوع بل هو بالخصوص نظام اجتماعي وسياسي وثقافي يقوم بإدخال علاقات الهيمنة الى النفوس ويدفع الأفراد الى الاعتراف الطوعي بالتقسيم التفاضلي التراتبي للمجتمع بوصفه نظاما بديهيا وعلاقة طبيعية بين الحاكم والمحكومين. كما تمارس الدولة العنف الرمزي عن طريق القوانين في البنى الموضوعية وبالتوافق مع البنى اللاوعية المدخلة والمشرعنة للهيمنة ومن خلال المقولات الادراكية في البنى الذاتية المفروضة بواسطة القوانين.

على هذا النحو تمارس نظرية العنف الرمزي المشروع نوعا من النفوذ على نظرية اعادة الانتاج التي تجعل من العنف مكونا بنائيا للاجتماعي وتبني من السلطة المجهولة مؤسسات تفتن بسحرها الجميع.

عندئذ يمارس العنف الرمزي من خلال الرضا بقوانين السلطة والقبول الضمني للخاضعين بالمقولات الفكرية والدلالات الشرعية والحرص على المحافظة على النظام الاجتماعي القائم وتسلسله الهرمي.

لقد أحدث بورديو ثورة معرفية ليس فقط في علاقة النظرية بالممارسة حينما جعل المثقف المشاكس ينخرط في الصراع الاجتماعي والسياسي ويشارك في التغيير بل في التصورات الاستراتيجية التي تسعى الى تطوير العلاقة بين القوة المادية والرمزية بين الأجناس وتخلصها من الاستبعاد والعنف.

خاتمة:

«  Structure structurante, qui organise les pratiques et la perception des pratiques, l’habitus est aussi structure structurée : le principe de division en classes logiques qui organise la perception du monde social est lui-même le produit de l’incorporation de la division en classes sociales »[8].

في نهاية المطاف ساعد المنهج البنيوي التكويني بيير بورديو على النظر الى الصراعات الاجتماعية داخل الحقول الاجتماعية لا بوصفها احتدام بين الطبقات من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج المادية وعلى ملكية رأس المال الاقتصادي وما يرافق ذلك من عنف فيزيائي مادي بل النظر اليها كنزاع حول رأس المال الثقافي بوصفه رأس المال الرمزي ومن أجل التمايز الاجتماعي وما يستوجب ذلك من عنف رمزي داخل الحقل الحيوي والمحتوى الثقافي ومن اعادة انتاج لاواعية للمنزلة الطبقية للفاعلين.

لقد أقام بورديو الثيمة الاجتماعية على جملة من العناصر هي نسق من المواقف والمصالح بالنسبة الى الفاعلين الاجتماعيين وتفاعل بين حلقات مترابطة في هذا النسق تتكون من جملة من الأبعاد الايديولوجية والرمزية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية و ومن عدد من المؤسسات والهياكل التي تتراوح بين الذاتي والموضوعي وبين الفردي والجماعي وبين الخاص والمشترك وبين الخارج والداخل.

اللافت للنظر أن حجر الزاوية في النظرية الاجتماعية الجذرية عند بيير بورديو هو الهابيتوس الذي يقف وراء وعي الأفراد بتكويناتهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية ويتحكم في أعمالهم وأفكارهم ويوجه سلوكاتهم ومواقفهم ويحدد ردود أفعالهم ونظرتهم الى الكون من خلال مرجعية لاواعية. ويدل مفهوم الهابيتوس على منظومة الاستعدادات البعدية  التي يكتسبها المرء عبر التجارب التاريخية وتتضمن جملة تصورات الإدراك والتقويم والفعل التي طبعها المحيط  الاجتماعي بمرور الزمن في الشخصية.
 

اذا كان الهابيتوس يتوسط الأفعال الفردية والعلاقات الجماعية فإنه يتحول الى شرط لازم ينتج عمليات التقويم ويضفي المشروعية على البناء الهرمي للمجتمع والتراتبية الطبقية والتمايز في المكانة والقيم.  لا يمكن التحليل الاقتصادي الماركسي وفرضية صراع الطبقات على رأس المال المادي من تفسير استراتيجية اعادة انتاج النسق الاجتماعي لذلك يلجئ بورديو الى توظيف فرضيات رأسمال الثقافي والعنف الرمزي والهابيتوس من أجل الكشف عن الصراع الطبقي الرمزي من أجل التنافس على فائض القيمة وامتلاك الرأسمال المادي والرمزي ويعتبر رأس المال الثقافي من الشروط المولد للتكرار وإعادة انتاج نفس المدى الحيوي ونفس البناء الهرمي للحقل الاجتماعي
.

كما تلعب المؤسسات السياسية والقانونية والتربوية دورا بارزا في تفعيل استراتيجية اعادة الانتاج وبالخصوص المؤسسات التعليمية وذلك من خلال فرض التعسف الفكري وتمرير العنف الرمزي واجبار المتعلمين على طاعة القوانين والمحافظة على الواقع السائد وتحويل مجال التربية الى حيز تقر فيه الدولة جملة من التدابير السياسية التي ترعى بها الطبقة المهيمنة لمصالحها وتحمي بها نفسها.

 هكذا يغيب الحياد المطلق للمنظومة التربوية وتتحول المدرسة الى أداة في يد الدولة تخدم مصالح طبقية وذلك بإعادة انتاج نفس الحصص للمتنافسين وتكريس عدم تكافؤ الفرص بين المتعلمين وتتحول التربية الى بؤرة استقطاب كل التوجهات والمركز المتميز لرصد الإجماع والحفاظ على تماسك المجتمع. في هذا السياق  رفض بورديو أن تتحول الجامعة الى مؤسسة تابعة للأنظمة الادارية البيروقراطية للدولة وأن تعيد انتاج نظام الهيمنة السياسية السائدة، ولذلك عندما كان بصدد تسجيل أطروحته في الدكتوراه لفت الانتباه بموقفه الشجاع وتمرده على القوانين الجامعية السائدة وأعلن عصيانه على الأطر التنظيمية والتحكيمية. وبالتالي فقد كان بورديو من بين القلائل الذين ظهر نبوغهم وعبقريتهم في اختصاصهم السوسيولوجي رغم رفضه فكرة الحصول على شهادة الدكتوراه بتقديم بعض التنازلات وإعلان تقاليد الولاء والخضوع للسلطة الجامعية وذلك لعدم اقتناعه بهذا الصنيع  وبرر ذلك بأن الامتحانات والمباريات والشواهد هي آليات تعيد انتاج النسق المغلق وانتزاع السلطة وامتلاك الشرعية وإنتاج وإعادة انتاج نفس التدابير المعرفية والثقافية من طرف الطبقة المهيمنة.

« L’organisation même de l’institution, les filières qu’elle proposait, les enseignements qu’elle assurait, les titres qu’elle décernait, reposaient sur des coupures tranchées, des frontières nettes, la division entre le primaire et le secondaire déterminant des différences systématiques dans toutes les dimensions de la culture enseignée, des méthodes d’enseignement, des carrières promises. »[9]
 

لقد فسر بورديو حدوث أزمات في المشهد التربوي بنظرية التعسف الثقافي وارتباط النجاح بامتلاك رأسمال الرمزي والثقافي وكشف عن وجود علاقة بين لاتكافؤ الفرض بين المتعلمين وآليات اعادة انتاج نفس البناء الهرمي في المجتمع والتراتبية التقليدية في الميدان السياسي وانتبه الى تحول الحقل التعليمي الى حقل خصب لامتلاك الشرعية نقلها من مجموعة الى فئة أخرى ونادى بالإنصاف وتمكين المتعلمين من نفس الحظوظ وتوزيع الشرعية بشكل عادل على الفاعلين والمنتجين والمتعلمين. غاية المراد أن دور الفاعل التربوي ليست اثارة وتنمية جيل الراشدين لدى لأطفال الذين لم ينضجوا بعد عدد معين من الحالات الجسدية الفعلية والأخلاقية التي يتطلبها منه المجتمع بما يجعلهم يتكيفون مع بنيته الخاصة بل يحول التمدرس الى وضعية للالتحام والإدماج والإندماج والتجسد ويجعل رأسمال الرمزي ويتموضع في مؤسسات ويصبح نموذج مثالي للاستثمار الثقافي والأخلاقي ونسق مفتوح من الحقول الحيوية المتداخلة
.

«  L’Ecole enfin, lors même qu’elle est affranchie de l’emprise de l’Eglise, continue de transmettre les présupposés de la représentation patriarcale (fondée sur l’homologie entre relation homme/femme et relation adulte/enfant) et surtout, peut-être, ceux qui sont inscrits dans ses propres structures hiérarchique »[10].

في الختام قام بورديو برحلة استكشافية احتجاجية في أروقة العولمة المتوحشة مبينا بؤس العالم وموظفا المعرفة الاستقصائية في خدمة المضطهدين بعيدا عن الاختصاص العميق ودون الاستنجاد بصفحات الكتب الجاهزة ومكتفيا بمحاورة البشر في ظروف حياتهم اليومية وقراءة ظروفهم المعيشية على ضوء التجربة التاريخية والمنعطفات الاجتماعية والسياسات المتبعة. لقد تفطن بورديو الى معاناة الناس من الكبت والحرمان وانتبه الى العنف الرمزي والاستبعاد الاجتماعي والقسوة التي تعصف بالأجساد والى الدوار الذي يغمي الأرواح والوعي المغترب الذي يطمس جوهر الانسان ويجعل من بؤس العالم مصدر بؤس للإنسان وسبب عجزه عن خلق عالم جيد.

المصادر والمراجع:

 اذا كان الرأسمال الاقتصادي هو مجموع العائدات والثروات الاقتصادية للفرد واذا كان الرأسمال الاجتماعي هو الثروات الناتجة عن اقامة شبكة مستقرة من العلاقات التفاعلية والتعارفية فإن الرأسمال الثقافي هو رأسمال رمزي يحظى بتقدير معنوي من قبل أفراد المجتمع ويتكون من المؤهلات والقدرات التي يحصل عليها الفرد نتيجة التعليم والرغبة في المعرفة والبحث المتواصل والاجتهاد العلمي والتجربة التاريخية المتركمة والعمل الجماعي الدؤوب والمثابر.

على هذا النحو إن الرأسمال الثقافي هو مصطلح سوسيولوجي بلوره بورديو وأضافه الى مصطلحات الرأسمال المادي والرأسمال الاجتماعي والرأسمال الاقتصادي ويعني به مجموع المنابت والينابيع والمصادر الثقافية التي ينهل منها الفرد وتتوزع الى العادات والتقاليد والأعراف والسرديات والأساطير والرمز والدين والفنون. كما يفيد جملة المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي وتشكل أحد أدوات التحكم والتوجيه والتأثير في الفرد ويتم مراكمتها عبر الزمن وتمريرها من شخص الى آخر عن طريق المحاكاة والمشاركة والتقليد ويمكن كذلك نقلها من جيل الى آخر عبر آلية اعادة الانتاج واحترام النفوذ. بناء على ذلك ان الرأسمال الثقافي يحصل عليه المرء بعد مراكمة للتجارب المتنوعة ومثابرة في العمل ويعطيه نوعا من الامتيازات في المجتمع ويتوزع الرأسمال الثقافي الى ثلاثة عناصر هي شكل متسجد في الهابيتوس الثقافي وتكمن وظيفته في جعل الانسان كائنا اجتماعيا ومشاركا في الفضاء العام، وشكل مموضع في مستوى ثان يتكون من منافع ثقافية وخيرات رمزية مثل الكتب والآثار الفنية والأدوات الرقمية وتتمثل مهمتها في حزن وحفظ العناصر الثقافية، وشكل مؤسساتي في مقام ثالث ويتمثل في العناوين المدرسية والمتاحف والمكتبات ودور الثقافة والمسرح والسينما وتتمثل مهمته في عرضه للمنتوجات الثقافية للفرجة والتقبل والتداول التوزيع والاستعراض والاستهلاك وبالتالي تتحول هذه المؤسسات الى سوق ثقافي. هكذا يقوم بيير بورديو بتعريف الطبقة الاجتماعية وتمايزها عن غيرها وفق حجم وبنية الرأسمال الثقافي الذي تمتلكه، وبالتالي هناك طبقة اجتماعية تكون قادرة على امتلاك نظرية مجردة بينما تحوز طبقات شعبية أخرى على منتوجات متعينة ومعطيات تجريبية لا تدوم بل تنقضي بمجرد استهلاكها من قبل المتلقين.

لقد جعل بورديو من التمايز Distinction  معيارا للنقد الاجتماعي لملكة الذوق وقام بعملية قلب لمقولات الجمال والفن والثقافة التي لم تخضع البتة الى المساءلة من قبل. وبيّن أن الجمال ليس مفهوما قبليا ولا غائية دون غاية وإنما الناس يذوقون من خلال خبراتهم الثقافية وتكوينهم العلمي والشهادة الأكاديمية الحائزين عليها وبالاعتماد على موقعهم الطبقي في المجتمع الذي ينتمون اليه. غير أن المفارقة تظهر حينما لا يتناسب الرأسمال الثقافي للطبقة المهيمنة مع الرأسمال الاقتصادي الذي تمتلكه فهو أقل بكثير وفي حالات نادرة أكبر بكثير ويرجع ذلك الى اضطراب نظام التعليم وخلل في المبادئ التوجيهية للفعل وتباين أنماط الحياة وتضارب المواقف والمصالح الايديولوجية للطبقات.

هكذا ينظم التمايز الفاعلين الاجتماعيين داخل الفضاء الاجتماعي في اطار مواقع مختلفة من أجل لعب أدوار متكاملة تجعل من الهابيتوس يحافظ على جاهزيته ويحقق تماسك النسيج العمومي، كما يربط التحليل المعرفي للمجتمع بالنقد الاجتماعي للثقافة واستعمالاتها كوسائل للهيمنة والتحكم ويخضع التمييز بين الحسن والقبيح وبين الغالي والرخيص وبين اللامع والمتهرئ الى الموقع الطبقي.

من هذا المنطلق يعرف بورديو المجتمع على أنه تركيب حقول وتنضيد مجالات مثل الاقتصاد والفن والدين والرياضة والثقافة ويحدد الحقل بكونه فضاء اجتماعي يخضع لقواعد لعبة تنافسية معينة ويسيره منطق ويتموقع فيه الفاعلون حسب دورهم في اللعب ومصالحهم ورهاناتهم من الاندماج في المجتمع. غني عن البيان أن مفهوم اعادة الانتاج هو نوع من العنف الرمزي الذي يمارسه النظام التربوي من أجل اجبار المتعلمين على الخضوع للمنطق الاجتماعي السائد والمحافظة على النظام السياسي القائم. كما تتميز نظرية الفضاء الاجتماعي بمنطق تكوين المجموعات بالاعتماد على البناء الهرمي وأساليب الحياة والصراعات التي تخترق هذه المجموعات وكيفيات اعادة انتاج التراتبية الاجتماعية.

بالرغم أن الثقافة التقليدية  تخضع للنقد من طرف الثقافة الجديدة من زاوية النمو الاقتصادي والمنزلة القانونية إلا أنها تظل مصدر الحرية الانسانية وتمنح الأفراد الملاذ الآمن للشعور بالانتماء والانفتاح. اذا كان الحقل الاجتماعي يتكون من مجموعة من القوى المتصارعة والمتنافسة فإن المبدأ المحرك للقوى هو الصراع قصد التمايز ضمن الإطار الذي يربط بين الرأسمال الثقافي بالرأسمال الاقتصادي. غير أن بورديو يكشف عن رؤيته الجذرية للمجتمع حينما ينتبه الى الفارق بين آليتي التطابقConformité   والتمايز داخل الفضاء الاجتماعي وبين الفاعلين الاجتماعيين والمهمّشين الذين يتم استبعادهم وازدرائهم. زد على ذلك يشير العنف الرمزي الى كل سلطة تتمكن من فرض دلالات معينة وتصبغ عليها الصفة الشرعية من خلال اخفاء علاقات القوة التي تتأسس عليها هذه السلطة. لذلك تتمثل وظيفة هذا المعطى في كونه يعكس علاقات الهيمنة التي يتم استبطانها من قبل الفاعلين حسب موقعهم في الحقل الاجتماعي ونوعية رأس المال الذي يمتلكونه ويستند الى شرعية مخططات التراتبية الاجتماعية. بناء على ذلك لا يتعلق الأمر بعنف بيذاتي Inter-subjectif يمارسه انسان ضد انسان آخر بل بعنف بنيوي مهيكل عن طريق المؤسسات وبهيمنة بنيوية تنطلق من موقع في مواجهة وظيفية لموقع آخر. كما يحدث في المجتمع صراع على التصنيف ويوجد قطبان متقابلان حيث يحتكر الأول السلطة ويمارس نوع من النفوذ في حين أن البقية تبقى في موقع متدني وتسقط في نوع من التبعية والخضوع. كما أن البنى التي يمارس من خلالها الأفراد الهيمنة على المجموعات وفق بناء هرمي وترتيب تفاضلي هي مرتبط برؤوس المال الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والرمزية التي يحوزون عليها.

على هذا النحو تمارس البنية الاجتماعية نوعا من العنف الرمزي على الأفراد لأنها مخفية عن الوعي الجماعي وغير مدركة من قبلهم ويكون مصدر شعور بالدونية والغبن والازدراء واللاّمعنى وفقدان الدلالة بالنسبة اليهم. كما ترتبط الهيمنة الذكورية بنوع من العنف الرمزي الذي يمارس على المرأة من خلال التقسيم الجنسي للعمل وإعادة انتاج نفس البنى التقليدية في النشاطات الانتاجية والمحافظة على أـولوية الذكور على الإناث في العملية التبادلية والاستهلاكية والتفاوت في التمتع بالأرباح والخيرات وفي قيمة الأجور.

« L’effet de la domination symbolique s’exerce non dans la logique pure des consciences connaissantes, mais à travers les schèmes de perception, d’appréciation et d’action qui sont constitutifs des habitus et qui fondent, en deca des décisions de la conscience et des contrôles de la volonté, une relation de connaissance profondément obscure à elle-même. »[7]

يترتب عن ذلك أن العنف السياسي ليس فقط استبداد الدولة وممارستها الاكراه والقسر والتطويع والإجبار للأفراد والجماعات على الطاعة والخضوع بل هو بالخصوص نظام اجتماعي وسياسي وثقافي يقوم بإدخال علاقات الهيمنة الى النفوس ويدفع الأفراد الى الاعتراف الطوعي بالتقسيم التفاضلي التراتبي للمجتمع بوصفه نظاما بديهيا وعلاقة طبيعية بين الحاكم والمحكومين. كما تمارس الدولة العنف الرمزي عن طريق القوانين في البنى الموضوعية وبالتوافق مع البنى اللاوعية المدخلة والمشرعنة للهيمنة ومن خلال المقولات الادراكية في البنى الذاتية المفروضة بواسطة القوانين.

على هذا النحو تمارس نظرية العنف الرمزي المشروع نوعا من النفوذ على نظرية اعادة الانتاج التي تجعل من العنف مكونا بنائيا للاجتماعي وتبني من السلطة المجهولة مؤسسات تفتن بسحرها الجميع.

عندئذ يمارس العنف الرمزي من خلال الرضا بقوانين السلطة والقبول الضمني للخاضعين بالمقولات الفكرية والدلالات الشرعية والحرص على المحافظة على النظام الاجتماعي القائم وتسلسله الهرمي.

لقد أحدث بورديو ثورة معرفية ليس فقط في علاقة النظرية بالممارسة حينما جعل المثقف المشاكس ينخرط في الصراع الاجتماعي والسياسي ويشارك في التغيير بل في التصورات الاستراتيجية التي تسعى الى تطوير العلاقة بين القوة المادية والرمزية بين الأجناس وتخلصها من الاستبعاد والعنف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...