سوسيولوجيا الثقافات القروية والحضرية
الفصل الخامس


مقتطفات من مقدمة ابن خلدون حول البدو والحضر
1/ فصل في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي‏.‏ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة ومنهم من ينتحل على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها‏.‏ وهؤلاء القائمون‏.‏ على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة ولا بد إلى البدو لأنه متسع لما له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك‏.‏ فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحضل بلغة العيش من غير مزيد عليه ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر‏.‏ ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها فيتخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون‏.‏ وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان‏.‏ ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة‏.‏ وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم‏.‏ فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منهما كما قلناه‏.‏
2/ فصل في أن جيل العرب في الخليقة طبيعي:
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران والكهوف‏.‏ وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار‏.‏ فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال وهم عامة البربر والأعاجم‏.‏ ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم‏.‏ والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة وهولاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة‏.‏ وأما من كان معاشهم في الأبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الأبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله إذ الأبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفاءة فاضطروا إلى أبعاد النجعة‏.‏ وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضاً فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق‏.‏ إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها‏.‏ فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
3/ فصل في أن البدو أقدم من الحضر
قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم‏.‏ ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليهما لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه‏.‏ فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذ ا كان الضروري حاصلاً‏.‏ فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة‏.‏ ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها‏.‏ ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة‏.‏ وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم‏.‏ والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته‏.‏ ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر‏.‏ وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه‏.‏ ثم أن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه‏:‏ فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمراناً من مدينة‏.‏ فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم‏.
‏4/  فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر؛ <<كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه >>. وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه: فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه؛ وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضاً عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم علي نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر اقل بكثير. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها؛ فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، وهو ظاهر. وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير. فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر.
5/ فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر
والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد؛ فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة  النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم؛ حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم؛ قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أكل أنفسهم. وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشار السبل. وسبب ذلك ما شرحناه. وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبية ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الآدميين تجد كثيرا صحيحاً. والله يخلق ما يشاء.
6/ فصل في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم
وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه؛ إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم؛ فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتى صار لهم الإدلال جبلة لا يعرفون سواها.أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه. (...).وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للباس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك. وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه علي المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه. ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو اشد بأساً ممن تأخذه الأحكام. ونجد أيضاً الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من باسهم كثيراً، ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة؛ فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس.(...).ولما تناقص الدين في الناس واخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم.فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للباس لأن الوازع فيها أجنبي؛وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم؛ والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب. (...)
7/ فصل في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة
وبالعكس لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه، وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوَّته الناطقة العاقلة،  لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان، لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان؛ فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والملك، إذ الخير هو المناسب، للسياسة. وقد ذكرنا أن المجد له اصل يبني عليه، وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال. وإذا كان الملك  غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها، وهي الخلال؛ لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع؛ وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره، فإنه فاعل للخير والشر معاً ومقدرهما إذ لا فاعل سواه. فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ إحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق، ووجدت فيه الصلاحية لذلك. وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى. فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية. فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقرى للضيوف، وحمل الكل وكسب المعدم، والصبر على المكاره والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم، واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم، ورغبة الدعاء منهم، والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتبدل في أحوالهم، والانقياد للحق والتواضع للمسكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتدين بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك، علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم، أو على العموم، وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم، وليس ذلك سدى فيهم، ولا وجد عبثاً منهم؛ والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم؛ فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم. وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها؛ فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم، ويتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك، وجعل في أيديهم من الخير: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه ورسمناه. والله يخلق ما يشاء ويختار.
8/ فصل في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه؛ أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء؛ أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم؛ حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير؛ كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء؛ والأمر لله. وتأمل في هذا سر قولهم: "العامة على دين الملك " فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم. والله العليم الحكيم؛ وبه سبحانه وتعالى التوفيق.
9/ فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابذعر(أي تفرق) الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة. وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم (حيث قال للملك): أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبة الرب وجعل له قيماً، وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها، وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة، فتركوا العمارة، والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم، وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة، وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.(....) ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها، ولم يقع فيها خراب. واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر. فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً، لأن النقص إنما يقع بالتدريج. فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين. وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى، فترفعه بجدتها، وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه، فلا يكاد يشعر به، إلا أن ذلك في الأقل النادر. والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول. ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله.
10/ فصل في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص
(...) أما أعمار الدول أيضاً وإن كانت تختلف (...)، إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال. والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته. قال تعالى: " حتى إذ ا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " . ولهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل. ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه، فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد.
وإنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال: لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون. والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الأشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع. ويبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم. وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما تفنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، وينسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها. فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت. فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلفها. ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة آباء. وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات، فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الأنصاف.
وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مر. ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده، (...) فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع. ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة، وهذا معناه. فاعتبره واتخذ منه قانوناً (...)
11/ فصل في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة:
اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول. فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس، ولا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة، فطور الدولة من أولها بداوة. ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال، والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله، فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً، وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف، وما تتلون به من العوائد. فصار طور الحضارة في الفلك يتبع طور البداوة ضرورة، لضرورة تبعية الرفه للملك. وأهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة. فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً، وأمثال ذلك. فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك، والقيام على عمله، والتفنن فيه، مع ما حصل لهم من اتساع العيش والتفنن في أحواله، فبلغوا الغاية في ذلك، وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال، واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثي، وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والولائم وليالي الأعراس، فأتوا من ذلك وراء الغاية، وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح، وركب إليها في السفين، وما أنفق في إملاكها، وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها، تقف من ذلك على العجب.
12/ فصل في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية، فكثرت العصابة، واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع، وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه، فازدادوا بهم عدداً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد. فإذا ذهب الجيل الأول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة وتمهيد ملكها، لأنهم ليس لهم من الأمر شيء، إنما كانوا عيالاً على أهلها ومعونة لها، فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتلاشى، ولا تبقى الدولة على حالها من القوة. واعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام. كان عدد العرب كما قلناه لعهد النبوة والخلافة مائة وخمسين ألفاً أو ما يقاربها من مضر وقحطان، ولما بلغ الترف مبالغه في الدولة وتوفر نموهم بتوفر النعمة، واستكثر الخلفاء من الموالي والصنائع، بلغ ذلك العدد إلى أضعافه. يقال: أن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف. ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية والقاصية شرقاً وغرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين. وقال المسعودي: أحصي بنو العباس بن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم، فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران وإناث، فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مئتي سنة، واعلم أن سببه إلى الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم، وإلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا ولا قريباً منه. والله الخلاق العليم.
13/ فصل في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار
اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطورلا يكون مثلة في الطور الأخر، لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه. وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار: الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع، والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها. فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية، لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه. فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه، حتى يقر الأمر في نصابه، ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده، فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد، لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم، وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد، فيركب صعباً من الأمر.
الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الأثار وبعد الصيت، فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال، حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة، فيباهي بهم الدول المسالمة، ويرهب الدول المحاربة. وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة. لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم، بانون لعزهم، موضحون الطرق لمن بعدهم. الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة. ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه، سلماً لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلداً للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده. لطور الخامس: طور الإسراف والتبذير. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه، واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن، وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستلفون بحملها، ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها، مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه، حتى يضطغنوا عليه، ويتخاذلوا عن نصرته، مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته، وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده، فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخفص منه، ولا يكون لها معه برء، إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها. والله خير الوارثين.
14/ فصل في أن المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير
قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها، وأنها تكون على نسبتها. وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم. فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك، حشر الفعلة من أقطارها، وجمعت أيديهم على عملها. وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء، لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك، كالمخال وغيره. وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة، مثل إيوان كسرى، وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب، إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين، فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير، في طولها وقدرها، لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها. ويغفل عن شأن الهندام والمخال، وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية. وكثير من المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء، واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم، ما يشهد له بما قلناه عيانا. وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية، نسبة إلى قوم عاد، لتوهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس كذلك، فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم، وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم، كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية، والصنهاجيين، وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد. وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان، وبناء الموحدين، في رباط الفتح ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة، في المنصورة بإزاء تلمسان. وكذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضاً لهذا العهد. وغير ذلك من المباني والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً وبعيداً، تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم. وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة. ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد. وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين، ويشاهدونها لا تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد. وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك. حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة، كان يتناول السمك من البحر طرياً فيشويه في الشمس. (...)
15/ فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة
اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك للقرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها: فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل، وأما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها. ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً، أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة، أسرع إليها العفن من مجاورتها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة، وهذا مشاهد. والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. (...) وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور: منها الماء، بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائها عيون عذبة ثرة. فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء وهي ضرورية، فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ولا بد لها من المرعى. فإذا كان قريباً طيباً، كان ذلك أرفق بحالهم، لما يعانون من المشقة في بعده. ومما يراعى أيضاً المزارع، فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها، كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله. ومن ذلك الشجر للحطب والبناء، فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ. والخشب أيضاً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم. وقد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية. إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول. وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات، وما تدعو إليه ضرورة الساكن. وقد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي، أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه، ولا يذكر حاجة غيرهم، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية، فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم، من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح. ولم يراعوا الماء، ولا المزارع، ولا الحطب، ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف، ولا غير ذلك، كالقيروان. والكوفة والبصرة وأمثالها. ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية. ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر، أن تكون في جبل، أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد، تكون صريخاً للمدينة متى طرقها طارق من العدو. والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر، ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات، ولا موضعها متوعر من الجبل، كانت في غرة للبيات، وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها، لما يأمن من وجود الصريخ لها. وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً وخرجوا عن حكم المقاتلة. وهذه كالإسكندرية من المشرق، وطرابلس من المغرب، وبونة وسلا. ومتى كانت القبائل أو العصائب موطنين بقربها، بحيث يبلغهم الصريخ والنعير، وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها، كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها، لما يكابدونه من وعرها، وما يتوقعونه من إجابة صريخها. كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها. فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الأسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية، مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وإفريقية، وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها.
16/ فصل في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
            والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران، يكثر ترفة كما قدمناه، وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها، فتنقلب ضرورات وتصير الأعمال فيه كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية، بازدحام الأغراض عليها من أي الترف، وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات، ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال، فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. ويعظم خرجه، فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم.
والبدوي لم يكن دخله كثيراً، إذ كان ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب، فلم يتأثل كسباً ولا مالاً فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير، لغلاء مرافقه وعزة حاجاته. وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال، لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه، فلا يضطر إلى المال. وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من أهل البادية، فسريعاً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه، إلا من تقدم منهم تأثل المال، ويحصل له منه فوق الحاجة، ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف. فحينئذ ينتقل إلى المصر، وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداية عمران الأمصار. والله بكل شيء محيط.
17/ فصل في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده
قد بينا لك فيما سلف، أن الملك والدول غاية للعصبية، وأن الحضارة غاية للبداوة، وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس. كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً. وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك، لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران، دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة، كما علمت، هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه، كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحد من هذه، صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها. وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله، والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران، فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته. ثم تزيدها المكوس غلاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. والمكوس تعود على البياعات بالغلاء، لأن السوقة والتجار كلهم، يحتسبون على سلعهم وبضائعهم، جميع ماينفقونه، حتى في مؤونة أنفسهم، فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر. ويقل المستامون للبضائع، فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة. وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف. وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران. وأما فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد، والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات. ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة به وبدواعيه، واطراح الحشمة في الخوض فيه، حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم، الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح، حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم، إلا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة. ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب، وأهملته الدولة من عدادها، وغلب عليه خلق الجوار والصحابة، وإن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتات. وذلك أن الناس بشر متماثلون، وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولاطيب منبته. ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول، منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم، وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً " . ووجهه أن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم، لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص، واحداً واحداً، اختل نظام المدينة وخربت. وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي: أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب، حتى إن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور، تطيراً به، وليس المراد ذلك ولا أنه خاصة في النارنج، وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثم إن النارنج والليم والسرو وأمثال ذلك، مما لا طعم فيه ولا منفعه، هو من غايات الحضارة، إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط، ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى، وهو من هذا الباب، إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها، ما بين أحمر وأبيض، وهو من مذاهب الترف. ومن مفاسد الحضارة أيضاً الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في الشهوات (...). فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري لا يقدر على مباشرة حاجاته، إما عجزاً لما حصل له من الدعة، أو ترفعاً لما حصل له من المربى في النعيم والترف. وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم، فهو لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً في دينه غالباً بما أفسدت منه العوائد وطاعتها، وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه، إلا في الأقل النادر. وإذا فسد الإنسان فى قدرته ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون، من جند السلطان، إلى البداوة والخشونة، أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها. وهذا موجود في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران والدول. والله سبحانه وتعالى، كل يوم، هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن.
18/ فصل في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها
قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت، فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه، وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب، ولا يكاد ذلك يتخلف. والسبب فيه أمور: الأول: أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذيق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة، فتقل النفقات ويقصر الترف. فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة، ونقصت أحوال الترف فيها، نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر، لأن الرعايا تبع للدولة، فيرجعون إلى خلق الدولة: إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم، أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال، وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد، فتقصر لذلك حضارة المصر، ويذهب منه كثير من عوائد الترف. وهي معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني: أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب، وإنما يكون بعد العداوة والحروب. والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين، وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الأخر، فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة. وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها، حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف، فتكون عنها حضارة مستأنفة.. وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصهما، ومعنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث: أن كل أمة لا بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم. وإذا ملكوا وطناً آخر صار تبعا للأول، وأمصاره تابعة لأمصار الأول. واتسع نطاق الملك عليهم. ولابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة، لأنه شبه المركز للنطاق، فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان، فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا، فتنتقص حضارته وتمدنه وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان، وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد، ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمر الرابع: أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها، بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة. وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة. إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر، لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشىء في الدولة فهم شيعة لها. وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية، فهم بالميل والمحبة والعقيدة. وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة، فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب والحبس، وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف، بحيث لا يؤدي إلى النفرة، حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة. وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر. وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه، وهو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة، وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى، والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه، وله قدرة - على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع، وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت، ثم يعيد بناءه ثانياً.
وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه وعلمناه.  "والله يقدر الليل والنهار". والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة، أن الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر، بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع، فتتعين السياسة لذلك. أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة، وإذا كانا لا ينفكان، فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما كان عدمه مؤثراً في عدمه. والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم، أو بني أمية أو بني العباس كذلك. وأما الدول الشخصية، مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد، فأشخاصها متعاقبة على العمران، حافظة لوجوده وبقائه، وقريبة الشبه بعضها من بعض، فلا تؤثر كثير اختلال. لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة، وهي مستمرة مع أشخاص الدول. فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران، فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم، عظم الخلل كما قررناه أولاً. والله قادر على ما يشاء. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...