المشروع التربوي لدوركايم   
 Durkheim





يصنف دوركهايم من وجهة نظر الاتجاهات والتوجهات التربوية الكبرى في خانة التربية التقليدية، لأنه يدافع عن تربية الواجب Le devoir ،أي فرض ونقل الثقافة الضرورية للاندماج الاجتماعي.

يعرف دوركهايم  Durkheimالتربية كما يلي : " هي الفعل الذي تمارسه أجيال الكبار على تلك التي لم تنضج بعد للحياة الاجتماعية، وموضوعها هو تطوير وتنمية عدد من الحالات الفيزيائية والعقلية والنفسية لدى الطفل، والتي يتطلبها المجتمع السياسي في شموليته والوسط الاجتماعي الذي نتوجه إليه خاصة".

التربية حسب دوركهايم  شيء اجتماعي، ممارسة اجتماعية ، عمل مجتمع  على ذاته. كل مجتمع يصنع بواسطة نسقه التربوي الناس الذين هو في حاجة إليهم، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول نموذج الرجال أو الناس الذين تصنعهم المدرسة. بالنسبة لدوركهايم Durkheimتتنوع التربية بشكل كبير حسب الزمان وحسب البلدان، ففي المدن الإغريقية واللاتينية تروض التربية الفرد على الخضوع الأعمى للجماعة ،أي أن تصبح شيئا اجتماعيا. أما الآن فإنها تبذل جهدها لتجعل منه شخصية مستقلة. إن أعمال دوركهايمDurkheimحول التربية خاصة مؤلف: " تطور التربية في فرنسا" هي أعمال في سوسيولوجية تاريخية تمثل تدخل السوسيولوجيا في ميدان التربية . فميلاد النظرية السوسيولوجية حول أشياء التربية شيء أساسي له أهميته في ميدان التربية باعتبارها فحص وتفكير في وسائل وغايات التربية، فالتربية كتفكير عملي هي نتاج لبعض المجتمعات لأنه ليس لكل مجتمعات مذاهب تربوية، وتتطور هذه المذاهب في المراحل الحرجة من تاريخ المجتمعات. أصبح  التفكير التربوي حاجة دائمة وملحة بالنسبة للمجتمعات الحديثة نظرا للتغيرات والتحولات المتصارعة التي تفترض تجديدا تربويا بشكل مستمر. جعل دوركهايم علوم التربية في خدمة التربية لأن هدفه هو تأسيس المدرسة الجمهورية العلمانية، حيث اقتنع دوركهايم بأنه لا يمكن أن نبني مستقبلا تربويا إلا بفهم والتحكم في الحاضر وذلك بالإحاطة بالقوى التي تفعل في المجتمع وتسليحها.
الإرث البيداغوجي لدوركهايم Durkheim:

يتمفصل حول مسألتين، تعالجان مسائل خاصة بالعالم الحديث وبعالمنا، المسألة الأولى، العالم الحديث هو عالم العلوم والتقنيات، عالم الحضارة العلمية والتقنية. ، كيف ستكون التربية في هذا العالم؟

لا يتساءل دوركهايم فقط كيف ندرس العلوم أو ما هي المكانة التي نعطيها للعلوم في التربية ولكن أساسا كيف ستكون التربية في زمن العلوم؟

المسألة الثانية، لا وجود لتربية أصيلة بدون تربية أخلاقية، كيف نؤمن تعليما أخلاقيا اعتمادا على الثقافة العلمية  وليس إطلاقا على أساس ديني؟ وهذا السؤال يتضمن سؤالا آخر ،وهو كيف نحافظ على الرابط الاجتماعي؟ وكيف يتم بناؤه؟ أي كيف نبني الحياة الاجتماعية؟

هذان السؤالان أو الإشكالان هما أساس فكرة اللائكية ومشروع المدرسة اللائكية، وهنا بالضبط يتجلى الالتزام الشخصي لدوركهايم، فهو مثقف جامعي وموسوعي ملتزم شخصيا في الحركات الكبرى لبناء المدرسة اللائكية. مع دوركهايم تأسست هذه المدرسة والتي سماها مدرسة الشعب دون اللجوء إلى أي أساس ديني. أراد دوركهايم من خلال فكرة اللائكية أن يؤمن التماسك الاجتماعي، وأن تشكل هذه المدرسة نموذجا مشتركا من المعتقدات والقيم والمعارف التي توحد.
التربية في عصر العلوم دوركهايمDurkheim:

حل زمان التربية بواسطة العلوم التي أثرت في المعرفة والحضارة وجعلت الفكر التربوي ينتقل إلى عصر جديد، على هذه الفكرة أسس دوركهايم قراءته لتاريخ التربية وتحليله لمستقبلها ولمشاكلها، فتربية المستقبل هي تلط المرتبطة بعصر العلوم، ولهذا ميز دوركهايم في كتابه بين أربعة مراحل ( تطور التربية في فرنسا) :

العصر الأولي، العصر السكولائي المدرسيScolastique( من القرن 12 إلى القرن 14)،وهو عصر وسيط ظهرت فيه أغلب المؤسسات المدرسية.

 العصر الإنساني ( من القرن 14 إلى القرن 18): احتلت فيه الدراسات الأدبية مكانة مهمة في التعلم والثقافة.

العصر الحديث : بدأ منذ نهاية القرن 18 والذي لم ينته بعد ، حيث نبحث عن إتمام التعليم الأدبي بالثقافة، وهو تعليم يجب اقتراحه ( تأسيسه) وهو عمل مدرس المستقبل.

تميزت هذه الحقبة الرابعة بحالة شاذة، التفاوت بين المكانة المهمة التي تحتلها العلوم والتقنيات في الحضارة والمجتمع وبين مكانتها الضعيفة في التربية، هذا التفاوت هو ما يجب على علوم التربية أن تعالجه بمنح العلوم مكانتها في المدرسة. هل يمكن للعلوم أن تستجيب لهذا الطموح التربوي؟ لا يمكن للعلوم أن تقوم بذلك إلا باستفادتها من الإرث السابق ( الكنيسة ، التربية المسيحية ، تربية الضمير) و أن تستوعب كل الطموحات المرتبطة بالفكرة التربوية، والتي لا تنفك عن المسيحية وعن القيم التي سطرتها المسيحية في الحضارة الغربية. في المسيحية يجب البحث عن الخطاطة المجردة للعملية التربوية. وفي عمق كل تربية هناك نموذج ديني للخطاب وللتحول، يتعلق الأمر ،حسب دوركهايم، بالتأثير العميق في الشخصية المدركة ككل وكوحدة وتغييرها في الداخل. وبلغة معاصرة لا تكتفي التربية بالدرايات ودراية التصرف، بل إنها تقصد المواقف، وهو ما يطلق عليه دوركهايم الاستعداد العام للفكر والإرادة.  فالعملية التربوية في جوهرها:

 دينية : هي وحدة ، استبطان وكلية ، وهذا  الثالوث التربوي. لا يمكن للتربية العلمية أن تصبح نموذجا للعالم المعاصر إلا بشرط أن تصبح تكوينية، يجب أن تكون في نفس الوقت : تربية عقلية، ثقافية لتكوين العقل.

تربية أخلاقية ، تكوين الإرادة وكيف تكون الشخصية قادرة بواسطة العلم أن تفرض على نفسها واجبات وأن تعطي لنفسها قوانين وأن تخضع لها.

تربية جمالية : تكوين الذوق والحساسية بواسطة العلوم .

تربية سياسية : تكوين المواطن بواسطة العلوم.

يسعى دوركهايم إلى برنامج وضعي يدعو إلى ثقافة إنسانية مبنية على العلوم وقادرة على استعادة القيم التربوية الإنسانية النابعة من المسيحية. فرغم أن التطور المسيحي حول التربية غير مؤسس علميا ، فخلف الصيغ الرمزية التي تحتويها المسيحية، هناك حقيقة عميقة يجب الاحتفاظ بها، ووظيفة التربية هي تثقيف الإنسان وتطوير بذور الإنسانية الموجودة فيه، ومن تم فإن كل تعلم يحصر  دوره في مضاعفة السيطرة الطبيعية أو الفيزيائية على الكون، لن تحقق هذا الهدف الإنساني.
التربية الأخلاقية والرابط الاجتماعي.

كيف نؤمن الحياة الاجتماعية بالجماعة؟

انشغل دوركهايم  بمسألة الرابط الاجتماعي باعتباره أساس الحياة الاجتماعية ، والقلق الذي وسم كل عمله السوسيولوجي هو كيف نحافظ على الرابط الاجتماعي وعلى انسجام المجتمع؟ كيف نرسخ في الفرد السلوكات والقيم الضرورية للحياة الاجتماعية؟ هذا القلق هو مبدأ التزام دوركهايم في مسائل التربية، لأن الرابط الاجتماعي مهدد بالانشقاق.

اقتنع دوركهايم بأن الفردانية تهدد الديمقراطية، لأن الفرد هو قيمة. إلا أن انتصاره يهدد ما يجعله ممكنا. يمكن القول إذن بأن السوسيولوجية التي أسسها دوركهايم هي  محاولة للحصول على أدوات التحكم في الأزمة الاجتماعية وهي إبداع في خدمة المجتمع. فخلف القلق السوسيولوجي لدى دوركهايم هناك مجموعة من الثورات والتحولات الاجتماعية.

حلل دوركهايم الأزمة الاجتماعية اعتمادا على مفهومين : هما مفهوم الفوضوية  ومفهوم الوعي الجمعي. في نظره تدل الصراعات الاجتماعية على حالات الفوضى، فعندما تتفسخ دائرة من دوائر الحياة الاجتماعية ينتج عن ذلك فقدان الأفراد للأطر المرجعية وفقدان الاستقرار الذي يمنحه لهم الاندماج في النظام الاجتماعي، حيث يتركون في مواجهة أنفسهم، ويتم التخلي عنهم، وبالتالي لن يكون هناك تحكم في الرغبات والغرائز الفردية، هناك أيضا فوضى أو لا نظام لأن النظام الاجتماعي لم يعد ليتحكم في الأفراد وفي ميولاتهم . وحسب دوركهايم هناك ثلاثة أسس للحياة الاجتماعية:

أ ـ لا حياة اجتماعية سوية بدون نظام، قوة أخلاقية محترمة تحدد وتضبط لا محدودية ولا استقرار الرغبات الفردية؛

ب ـ في كل مجتمع خاص وفي كل زمن تاريخي هناك قيم مسلم بها ومشتركة، هناك وعي مشترك، وعي جماعي للقيم يستخدم لضبط الرغبات والحاجات ويؤطرها ويوجهها ويعطيها معنى اجتماعي؛

ج ـ كل قطيعة في التوازن يكزن لها تأثير في النظام الاجتماعي، فعندما تشتد الرغبات والحاجات الفردية يهتز النظام الذي يحتويها.

 حسب دوركهايم هناك ارتباط ما بين توازن الأفراد وما بين التماسك الاجتماعي وما بين اللاتوازن النفسي وما بين الفوضى الاجتماعية، فهما في نظره وجهان لنفس الظاهرة. وبصفة عامة لا تماسك اجتماعي بدون قيم مشتركة.

الوعي الجمعي هو مصدر القيم التي تفرض نفسها على وعي الأفراد، وهو الذي يؤسس التضامن الاجتماعي، فأساس الرابط الاجتماعي هو التواصل في أخلاقية مشتركة. مفتاح التوازن الفردي هو الحياة من خلال استدماج قواعد الجماعة، هكذا يكون المجتمع هو أساس القيم الأخلاقية التي تفرض نفسها على الفاعلين الاجتماعيين وعلى الأفراد، وهذه هي وظيفة التربية والتنشئة الاجتماعية الممنهجة للأجيال الشابة، لاستدماج المعايير والقيم التي تضمن التماسك الاجتماعي وتضبط السلوكات الفردية.
مهمة المدرسة

بكيفية عامة، وظيفة العملية التربوية ليست فقط تأمين تطور الفرد، وأن تجعل منه كائنا اجتماعيا، ولكن أساسا تأمين استمرارية المجتمع، وهذا هو التحدي الأكبر للمدرسة اللائكية، لتبرر وتؤسس شرعيتها، على المدرسة اللائكية ألا تكون فقط قادرة على التكوين، ولكن أن تؤسس للتربية الأخلاقية. فيج على التربية الأخلاقية، أن تهيئ شروط تنمية شخصية ديمقراطية وتطور الوعي النقدي العقلاني والفردي في نفس الوقت، والارتباط بالجماعة. فالأخلاق تنتمي في نفس الوقت إلى نظام العقل (تفسر وتفهم)، والى نظام عواطف، خاصة الوجدان.

في المدرسة الابتدائية تمر التربية الأخلاقية عبر منظورين، تعليم عقلاني للأخلاق ولقوانينها وأسسها ومبرراتها، وهو ما يطلق عليه دوركهايم اسم: فيزياء الأخلاق، فالأصل الوضعي في أن العلوم الإنسانية يمكنها أن تساعد الإنسان على أن يتصرف أحسن حسب العقل ، وفي تدريس العلوم هناك درس أخلاقي والذي ينتظر منه دوركهايم أن يحدث قطيعة مع التمركز حول الذات والاعتراف بالحتمية في الكون. الشعور بتركيب وتعقد الأشياء بفضل البيولوجيا، يجعل التلميذ يكتشف التركيب الذي يهيئه لفهم وقبول التركيب الاجتماعي والارتباط ما بين العناصر. هكذا يدرك الطفل بأن المجتمع هو أكثر من مجموع الأفراد الذين يشكلونه.

كما تمر التربية الأخلاقية عبر تربية سوسيووجدانية، فالأخلاق والرابط الاجتماعي هما أيضا شأن وجداني.
عناصر الأخلاق

يتحدث دوركهايم عن ثلاثة عناصر تشكل في نظره أساس التربية الأخلاقية وهي :

روح الانضباط ، الارتباط بالجماعة ، استقلال الإرادة.

مهمة المعلمين هي تطوير هذه العناصر بالاعتماد على الحياة في القسم.

يقترح دوركهايم ثلاثة وسائل :

أ ـ  تفعيل بيداغوجيا الجماعة، بيداغوجيا معنى الجماعة، يجب على المعلم أن يستعمل الوسط المدرسي ( الوسط الجماعي) ليقدم للتلاميذ معنى حياة الجماعة، ويجعلهم يشعرون بفائدة وجود جماعة فوق الأهداف الشخصية.

ب ـ تعلم معنى القاعدة : إن روح الانضباط هي القبول العقلاني للامتثال للقيم الجماعية. يتعلق الأمر باجتناب تنمية شخصية فوضوية، وذلك بأن نقدم للأطفال لذة الانضباط حسب احترام القواعد الضرورية للحياة المدرسية، وذلك بتدريس المراقبة الذاتية.

ج ـ استقلال الإرادة، بحيث يكون التلميذ حرا وواعيا ومدركا لذلك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...