بينت نظرة البنائية ودراستها للشعور بالتأمل الباطني ; و التحليلية وحتميتها البيولوجية للسلوك وطرق دراستها من تداعي وإخراج ما في مخازن اللاشعور ، كان هناك صوت يُنادي بعدم واقعية هذه المدارس وطرقها طالباً ومشدداً على انتهاج طرق موضوعية وأكثر علمية بعيداً عن ما سبق من أمور فلسفية لا تستطيع ملاحظة السلوك وقياسه .سواء كان شعورياً بنائياً أو لا شعورياً تحليلياً ... من هنا انطلقت مسيرة السلوكية حاملاً رايتها مؤسسها المتطرف الأول واطسن – أي المتشدد لمبادئها - الذي كان يرى بأن الفرد كائن يستقي سلوكه بحتمية بيئية ولا يرى أن هناك ما يسمى عوامل داخلية أو بالأحرى فإنه ليس هناك أي داعي لدراسة أي عوامل أخرى باعتبارها مؤثرة أو صانعة للسلوك – هذا من وجهة نظره – حيث يصف علم النفس بأنه علم السلوك الموضوعي ... وتُعد السلوكية أشهر المدارس الأمريكية .
العوامل التي ساعدت على ظهور السلوكية :
1) ظهور اتجاهات قبلها نادت بالموضوعية في علم النفس أمثال ديكارت ، وأوجست كونت الذي يُعد مؤسس الحركة الوضعية ، واعتقد بصدق المعلومات التي تأتي عن طريق الملاحظة .
2) نظرية النشوء والتطور لدارون وما نتج عنها من الاهتمام بعلم نفس الحيوان .
3) الوظيفيون الأمريكيون الذين كانوا برغم وظيفيتهم يميلون إلى الاتجاه الموضوعي .
4) أثر المدرسة الروسية ( مدرسة المنعكس الشرطي ) التي أسسها (إيفان ششنوف) وطورها بافلوف .
• وإن كنت أرى أن هناك فراغ إما بعدم القناعة بالآراء والنظريات المطروحة سابقاً أو بالوصول تماماً إلى عدم جدواها مما أدى إلى البحث عن البديل ، والذي لا أشك أبداً في أن كل ما سبق أثر بوجه أو بآخر فظهرت السـلوكـيـة .
بعد هذه المقدمة عن البدايات والنشأة للسلوكية سأتناول فيما يأتي أهم وأبرز رواد المدرسة السلوكية منهياً الحديث عنهم عند العالم بندورا ...
أولاً: جون واطسن
ولد واطسون في (كارولينا ) الشمالية وحصل على شهادة الماجستير من جامعة ( فورمان ) عام 1900م ثم جذبته الدراسة في جامعة شيكاغو متأثراً بـــ ( جون ديوي ) ، ثم درس علم النفس التجريبي ، كان في شيكاغو يجري تجاربه على الحيوانات ، وقد قدم رسالة الدكتوراه عن تطبيقات في مجال علم نفس الحيوان ، نشر مقالة بعنوان ( علم النفس من وجهة نظر السلوكية ) وقد أشار إلى أن علم النفس هو فرع تجريبي بحت من العلوم الطبيعية ، وفي عام 1914م أصدر واطسن كتابه الأول (( السلوك : مقدمة في علم النفس المقارن )) وقد تجاهل بافلوف في الطبعة الأولى ثم عاد وأشار إليه في طبعة تالية . ورأى بأن علم النفس لا بد أن يدفن الماضي أسوةً بالعلوم الأخرى .
وتتميز سلوكية واطسون بـ :§
1. التنبؤ بالاستجابة على أساس معرفة المثير .
2. التنبؤ بالمثير على أساس معرفة الاستجابة .
مسلمات علم النفس حسب تحديد واطسون :§
1. السلوك مكون من عناصر يمكن تحليلها بواسطة مناهج البحث العلمية الموضوعية .
2. السلوك مكون من افرازات غدية وحركات عضلية .
3. هناك استجابة فورية من نوع ما لكل مثير والعكس .
4. العمليات الشعورية – إن وجدت- لا يمكن دراستها علمياً .
لا يعترف واطسون بالغريزة ، وفي نظره فإن كل مظاهر السلوك التي تبدو غريزية في ظاهرها هي استجابات متعلمة من البيئة ، مؤكداً على التأثير السيادي للبيئة ، حيث بالامكان تدريب الطفل على أي شئ نريده .§
يرى بأن التعلم يلعب دوراً أساسياً ، فمثلاً المراهقة ما هي إلا نتيجة للتعلم الأشراطي في الطفولة .§
يرى أن الانفعالات استجابات جسمية لمثير معين ، والمثير يؤدي إلى تغييرات جسمية داخلية ، ومن ثم الاستجابة المتعلمة المناسبة لهذا المثير .§
يرى أن التفكير ما هو إلا سلوك حركي ضمني ، فسلوك التفكير متضمن حركات الكلام . وبالتعلم الأشراطي يصبح التفكير هو الكلام الصامت .§
أخيراً بالرغم من أن فترة حياة واطسون العلمية بسيطة في عمر العلم وتاريخه ، والتي استمرت أقل من عشرين عاماً ، إلا أن تأثيره كان واضحاً في علم النفس .§
ثانياً : إيفان بافلوف
يُعد بافلوف تاريخياً مؤثراً في أفكار واطسون مؤسس السلوكية ... وكان بافلوف الروسي أول من درس العلاقة بين المخ والسلوك والتي تُعتبر من أعقد مشكلات علم النفس ، ولد بافلوف عام 1849م بالقرب من موسكو ، كان لديه ميل شديد إلى البحث العلمي ... وخلال حياته اهتم بمشكلات ثلاث :
أ- دراسة وظيفة أعصاب الكلب .
ب- عملية إفراز اللعاب – حاز بسببها على جائزة نوبل عام 1904م –
ت- دراسة المراكز العصبية العليا في الدماغ مما زاد من شهرته .
• وكان جل اهتمامه نحو دراسة الأشراط ، وذلك عن طريق كلاب مفحوصة بعد أن عمل لها عمليات جراحية لتحويل مسار اللعاب عن طريق أنابيب من خلال فتحات في الرقبة ، إلى خارج الجسم . حيث كان عمله منصباً على دراسة الافرازات التي يحدثها الكلب عند تناول الطعام حيث لاحظ أن الكلب يُفرز اللعاب قبل تناول الطعام أو بمجرد حضور الشخص الذي يحمل الطعام إلى أن وصل إلى أن الشخص الذي يعده مثير شرطي ( أو الجرس أو البالطو ) أصبحت مثيرات تفرز لعاب الكلب . وذلك بعد عدد من تكرارات اقتران المثير الطبيعي بالمثير الشرطي. وعقب ذلك اكتشف بافلوف أن أي مثير يمكن أن يؤدي إلى استجابة لعاب (( أشراطية )) .طبعاً مع التكرار .
• ومن أهم المبادئ التي توصل إليها بافلوف :
أ- مبدأ التدعيم : أي أن الاستجابة لا تحدث إلا إذا اقترن المثير الطبيعي بالمثير الشرطي لعدد من المرات .
ب- مبدأ الانطفاء: ويحدث عند ظهور المثير الشرطي دون أن يعقبه المثير الطبيعي عدداً من المرات مما يُطفئ الاستجابة .
ت- مبدأ التعميم : حيث أن تستجيب الكلاب للمثيرات المتشابهة .
ث- مبدأ التمييز : حيث يستجيب الكلب للمثير الذي لحقه تدعيم بالطعام دون الآخر .
ثالثاً : إدوارد ثورندايك
يُعد من أهم الباحثين في علم نفس الحيوان ، ويعتبر من أوائل علماء النفس الأمريكيين الذين تلقوا تعليمهم في أمريكا ، وقد تأثر ثورندايك بـكتاب (وليم جيمس ) عن (( مبادئ علم النفس )) ثم درس على يده فيما بعد ، وكانت بحوث ثورندايك الأولى على الأفراخ التي دربها على المرور في المتاهات ، ومن أهم كتبه ((ذكاء الحيوان )) ، كان يرى أنه لكي ندرس السلوك فإن هذا السلوك يجب أن يُجزأ إلى عناصر بسيطة ، وهذه العناصر البسيطة هي وحدات من المثير والاستجابة ، وهي عناصر السلوك ، بمثابة لبنات تتكون منها عناصر سلوكية أعقد .
لمحة على تجارب ثورندايك :§
توصل ثورندايك لمعظم نتائجه باستخدام جهاز جديد في عهده عبارة عن (( القفص المحير )) بحيث يُوضع الحيوان في هذا القفص المحير ويطلب منه الخروج . حيث أن خارج القفص طعام ( مكافأة ) على سبيل الإغراء لهذا القط الجائع ، ويكون باب القفص مغلقاً بالمزلاج ، حيث أن مهمة القط التوصل إلى فتح المزلاج ومن ثم الخروج إلى الطعام ، وفي البداية كان سلوك القط عشوائياً متعثراً متخبطاً ، وبالمصادفة تصطدم يده بالمزلاج فينفتح الباب فيخرج لالتهام الطعام ومن ثم في المحاولات التالية تقل العشوائية تدريجياً إلى أن تزول ويتجه القط إلى إلى فتح المزلاج مباشرةً .
وقد استخدم ثورندايك طريقة كمية لقياس التعلم ، وهي إحصاء عدد المحاولات الخاطئة ، وأيضاً تسجيل الزمن ، وقد سمى ثورندايك هذا النوع من التعلم ( التعلم بالمحاولة والخطأ )§
من قوانين ثورندايك :§
1. قانون الأثر : الأفعال تتأثر بالمواقف المشابهة السابقة مما يجعلها تتجه إلى نفس الاستجابة حال تكرارها.
2. قانون التكرار :تكرار الاستجابة في موقف معين يقوي الرابطة والعكس .
رابعاً : إدوارد تولمان
وهو أمريكي ينتمي إلى السلوكيين الجدد، ويُعتبر أحد أعمدة المدرسة السلوكية .
ويمكن إيجاز موقف تولمان في التالي :
أ- سلوكية تولمان القصدية : حيث زاوج بين السلوك والقصد وهذا يتعارض مع رفض السلوكية الشعور .
ب- العوامل المتداخلة : حيث يرى أن هناك خمسة متغيرات تُمثل أسباباً للسلوك هي : ( المثيرات البيئية – الحوافز الفسيولوجية – الوراثة – التدريب السابق – السن ) .
ت- نظرية التعلم : حيث أن سلوك الإنسان والحيوان يمكن تعديلها من خلال الخبرة .
خامسا: ادوين جوثري
أمريكي حصل على الدكتوراة من جامعة بنسلفانيا عام 1912م ، كان إسهامه الأساسي في علم النفس توصله لنظرية بسيطة في التعلم عرضها في كتابه (( مبادئ التعلم )) . وتقوم نظريته على مبدأ أسماه الأشراط المتزامن، حيث يرى أن كل أشكال التعلم تعتمد على الاقتران بين المثير والاستجابة .إذ عندما يؤدي مثير معين إلى استجابة معينة يحدث الارتباط بين ذلك المثير وتلك الاستجابة ، وهذا موقف تعليمي يُسمى التعلم بالمحاولة الواحدة وهو من أشهر مبادئ جوثري .
سادساً : كلارك هل
أمريكي ويلقى ( هل ) تقديراً كبيراً في علم النفس المعاصر ، وهو من العلماء الذين اهتموا باستخدام المنهج العلمي في علم النفس ، كان في طفولته وشبابه مريضاً، كما أنه عانى من ضعف الإبصار طوال حياته .
أهم النقاط في نظرية ( هل ) :§
1. الإطار المرجعي للسلوك .. أي تكيف الكائن الحي لبيئته الفريدة .
2. منهج البحث في علم النفس .. حيث يرى أن قوانين السلوك يجب أن تُصاغ بلغة الرياضة الدقيقة .
3. الدوافع .. حيث عد أساس وجود الدافع هو إرضاء الحاجات البيولوجية . حيث أن الدافع ليس محرك للسلوك ولكنه مقوٍ له ، أما تحريك السلوك فإنه يكون عن طريق المثيرات البيئية .
4. التعلم .. وهو آلية تسمح للكائن الحي بإرضاء حاجاته وذلك في ضوء مدى وتنوع مجهوداته .
سابعاً : سكنر :
يُعتبر ( سكينر) في الوقت الحاضر أشهر وأكثر العلماء تأثيراً في علم النفس الأمريكي ، ولد في بنسلفانيا بأمريكا عام 1904م . ومن أهم مؤلفاته ( سلوك الكائن الحي ) و ( السلوك اللفظي ) و( الحرية والكرامة ) . ويمكن القول بأن سكينر تأثركثيراً بواطسون ورديكاليته القديمة مظهرا توأمةً جديدة لها تُسمى الرديكالية الجديدة ، فهو صاحب المواقف المثيرة للنقاش حيث قال في كتابه ( العلم والسلوك الإنساني ) إن الكائن الحي الإنساني هو عبارة عن آلة مثله مثل أي آلة أخرى ، إذن فسكينر لا يهتم أبداً بتنظير أو تأمل ما يحدث داخل الكائن الحي .
ويمكن توضيح أفكار سكينر فيما يلي :§
1. الاشتراط الإجرائي : حيث يرى أن الاشراط الإجرائي الفعال يحدث دون مثير خارجي ملحوظ ، فالفأر عند سكنر كان سلوكه له دور في الحصول على المثير الغير ملحوظ بخلاف كلب بافلوف الذي كان المثير أمامه فحركه ( إذن الفأر فعال إيجابي بينما الكلب غير فعال سلبي ) . وذلك يتضح من خلال تجربته الكلاسيكية التي وضع فيها فأر في صندوق له قضيب وهذا الفأر جائع مما دعاه للحركة لعله يحصل له الخروج من هذا الصندوق الذي منعه من البحث عن طعام إلا أنه وأثناء حركته يصطدم بالقضيب المتصل بمخزن من حبات الطعام فيسقط إلى الفأر مما يجعله يكرر المحاولة ليحصل على هذا المعزز من جديد على الرغم أنه لا يرى طعام .
2. جداول التدعيم أو جداول التعزيز : فقد صنف سكينر ثلاثة أنواع من التعزيز هـــي : أ- المستمر ب- المتقطع جـ- النسبي .
3. السلوك اللفظي : حيث اهتم بدراسة السلوك اللفظي وهو المجال الوحيد الذي أقر فيه سكينر بوجود فوارق بين الإنسان والفأر ، ويرى أن الأصوات التي تصدر من الكائن الحي هي استجابات يمكن تعزيزها عن طريق كلام الآخرين ،أو إيماءاتهم .
ثامناً : البرت بندورا
أمريكي بدأ في الستينات من القرن الماضي ، حيث تبنى نظرية سُميت نظرية التعلم الاجتماعي ، التي تتخذ اتجاهاً سلوكياً اجتماعياً ، وتعكس أهمية النظرية المعرفية ، ولكن رغم ذلك يبقى بندورا ضمن الإطار السلوكي . ونظرية بندورا إلى جانب أنها نظرية سلوكية فهي نظرية معرفية ، ففي رأي بندورا أن الاستجابات لا تتأثر آلياً بواسطة المثيرات الخارجية بأسلوب ميكانيكي آلي ، بل إن الاستجابات للمثيرات إنما يتم تنشيطها ذاتياً ، وعندما يتم تغيير السلوك بواسطة تدعيمات خارجية فإن ذلك يحدث لأن الفرد يكون واعياً وشاعراً بما يتم تدعيمه ، وفي حالة تهيؤ لقبول هذا التدعيم المؤدي إلى تغيير للسلوك .
وبالرغم من أن بندورا يتفق مع سكينر في أن سلوكنا يمكن أن يتغير نتيجة للتدعيم إلا أنه يرى بناء على دراساته التجريبية ، أن كل الأنماط السلوكية يمكن أن يتم تعلمها في غياب التدعيم المباشر ، وذلك بملاحظة سلوك الآخرين ، وملاحظة النتائج التي يؤدي إليها هذا السلوك . وهي ما يُسمى التعلم بالمثال أو التدعيم البديل . كما يشير بندورا إلى التعلم من خلال النماذج وذلك أننا نلاحظ الأفراد الآخرين ثم نتصرف متخذين أنماطهم السلوكية نماذج . ومن هنا نلاحظ الفرق بين سكنر وبندورا في أن التعزيز يتحكم في السلوك عند سكينر بينما النماذج التي في المجتمع هي التي تتحكم في السلوك عند بندورا .
أخيرأً يمكن القول أن السلوكية قد توسعت قاعدتها وقوية بإدخال نظرية بندورا .التي تهتم بالجوانب الاجتماعية والمعرفية في التعلم وتغيير السلوك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق