الفلسفة اليونانية قبل سقراط.
وموضوع هذه المرحلة الكون الطبيعي لمعرفة الأصل الذي نشأ عنه، وقـد مرت الفلسفة في هذه المرحلة بعدة أدوار، تميز كل دور بمميزات خاصة تميزه كليـًا أو جزئيًا عن الدور الآخر، وهذه الأدوار هي:
الأول ـ الذي تمثله المدرسة الأيونية على يد الفلاسفة الطبيعيين، وعلى رأسهم طاليس.
الثاني ـ الذي تمثله المدرسة الفيثاغورية، على يد الفيلسوف فيثاغورث.
الثالث ـ الذي يمثله الفلاسفة الإيليون، ومن أشهرهم بارمنيدس.
الرابع ـ الذي يمثله الطبيعيون المتأخرون، ومن أشهرهم ديمقريط.
وسنتناول كل مدرسة بإيجاز:
المدرسة الأيونية, الطبيعيون الأوائل:
تعد مدرسة الطبيعيين الأول أول مدرسة ظهر فيها التفكير الفلسفي المنظم فـي بلاد اليونان، وقد قامت هذه المدرسة في مقاطعة أيونيا بآسيا الصغرى على ساحل البحـر الأبيض المتوسط، وزعماؤها أربعة هم :طاليس([2])، وأنكسمندر، وأنكسمنس، وهيراقليطس، بحـث هـؤلاء الفلاسفة في الأصل الذي نشأ عنه العالم، واتفقوا أن هذا الأصـل مـادة موجـودة فـي الطبيعة، ولكنهم اختلفوا في تعيين هذه المادة.
أولًا ـ طاليس ومذهبه الفلسفي:
ذهب طاليس إلى أن الماء هو أصل الأشياء ومبدأ الموجودات، منه بـدأ وإليـه ينحل، وهو الجوهر الأساس الذي تولدت عنه كل الموجودات، وأن المـاء قابـل لكـل صورة، وأنه حين جمد الماء تكونت الأرض، وحين انحل تكون الهواء، ومـن صـفوة الهـواء تكونت النار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتغال الحاصل مـن الأثيـر تكونت الكواكب، وذلك كله قياسًا على أن جميع الحيوانات أساسها من الجوهر الرطب الذي هو المني، فأوجب أن يكون مبدأ جميع الأشياء من الرطوبة ... إلى غير ذلك من الأدلة.
ويمكن أن يقال إن فكرة طاليس عن الكون ترجع إلى الخرافـات والأسـاطير البابلية والمصرية، وهي ذات نزعة وثنية مادية.
ثانيًا ـ أنكسمندر ( أنكسماندريس ) ومذهبه الفلسفي:
رفض أنكسمندر رأي طاليس أن الماء هو أصل الكون، ورأى أن أصل الأشياء جسم موضوع الكل لا نهاية له، ولم يبين ماهيته، وأن هذا الجسم مزيج من المتضـادات مـن الطويـل والقصـير، والصغير والكبير، والحار والبارد ... وهكذا.
وقال أن هـذه الأشـياء كانت في البدء شيئًا واحدًا وجدت فيه هذه المعاني متعادلـة متكافئـة، وبفعـل التطـور والحركة حدثت انفصالات واجتماعات بين بعضها والبعض الآخر بنسب معينة وبمقادير متفاوتة؛ فتكونت عنها الأشياء الطبيعية، والتغيير يحصل بشـكل آلـي مجرد وبمحض الصدفة، فليس هناك علة فاعلة، وليس هناك غاية من وراء الفعل.
ثالثًا ـ أنكسيمانس ( أنكزمينس ) ومذهبه الفلسفي:
قال بوجود إله أزلي لا أول له ولا آخر، هو مبدأ الأشياء، ولا بدء له، هو المدرك من خلقه، أنّه هو فقط، وأنه لا هوية تشبهه، وكـل هوية فمبدعة منه، وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع، فقد كانت صورته في علمه الأول.
وذهب أنكسيمانس إلى أن أصل الكون هو الهواء، وهو المبدأ الأول للوجود، ومنـه تكـوَّن جميع ما في العالم من الأجرام العلوية والسفلية، وتتولد منه الأشياء عن طريـق التخلل والتكاثف، فإذا تخلخل الهواء صار نارًا، ومن النار تولدت كل الأشـياء الناريـة؛ كالكواكب والنجوم مثلًا، وإذا تكاثف الهواء نشأت عنه الرياح والعواصف والسحب ثـم الأمطار، ثم تتكاثف الأمطار فينتج عنها الأتربة والرمال والصخور.
ويتبقى لنا واحدًا من الفلاسفة الطبيعيون، ألا وهو هيراقليطس، نُصدِّر به بإذن الله تعالى المقال القادم.
ـ هيراقليطس ومذهبه الفلسفي:
ذهب إلى أن أصل الكون هو النار، وهي المبدأ الأول للوجود، ولكنه لا يقصد النار المحسوسة الحارقة، إنما هي نار إلهية لطيفة جدًا!!
يقول: إن مبدأ الموجودات هو النار، فمـا تكاثف منها وتحجَّر فهو الأرض، وما تخلخل من الأرض بالنار صار ماء، وما تخلخـل من الماء بالنار صار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صـار نـارًا، فالنار مبدأ، وبعدها الأرض، ثم الماء ثم الهواء، وبعدها النار.
والتغيُّر يجري في طريقين: طريق إلى أسفل، وطريق إلى أعلـى، ومـن تقابل هذين التيارين تتكون الموجودات من الحيوان والنبات، وأهم ما يميز مذهبه: قوله بالتغيُّر الدائم في الكون.
المدرسة الفيثاغورثية ومذهبها الفلسفي (1)يرون أن أصل الكون هو العدد!! لأنه أشبه بعالم الأعداد منه بعـالم المـاء أو النار أو الهواء، فالعدد أول مبدع أبدعه الباري تعالى، وأول العدد الواحد، وأن مبـادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، لأن الموجودات أعداد، وكـذا النغم الذي تتكون منه الفواصل الموسيقية، لا يتميز عن غيره إلا بتناسب بـين وحداتـه المختلفة تجعل من مجموعها صوتًا ونغمًا يألفه السمع، والعالم على هذا مركب من عدد ونغم.
ولا يمكـن للأشياء عندهم أن يتمايز بعضها عن بعض إلا بالعدد؛ فمثلاً الأطول يتميز عن الأقصر والأكبر عن الأصغر بزيادة وحدات وعدد فقط، لا بزيادة شيء خارج عن العدد.
وقالوا في بيان نظريتهم: العدد أصل لجميع الكائنات، فالواحد هو النقطة، والاثنين هما الخط، والثلاثة السطح، والأربعة الجسم، والخمسة هي الصفات المادية، والستة هـي الحياة، والسبعة العقل ... الخ.
المدرسة الإيلية أو الإيليائية ومذهبها الفلسفي (2)
ترى تلك المدرسة أن أصل الوجود هو الوجود نفسه، فليس في الكون كلـه إلا هـذه الحقيقة، ألا وهي حقيقة الوجود، وإذا أردنا وصف هذا الوجود بشيء فلا نستطيع وصفه إلا بأنه موجود، وعن هذا تنشأ وجودات الأشياء، ويتميز بعضها عـن البعض بمقدار ما فيها من هذه الحقيقة الأولى.
ولقد كان طابع هذه المدرسة عقليًا، وقد اهتمت في البحث عن أصل العالم الروحـي، ولم تهتم إلا قليلًا بأصله المادي.
الفلاسفة الطبيعيون المتأخرون (3):
ينحصر مذهبهم في القول بأن أصل العالم هو الذرة، ويفسرون الكون والفسـاد (الوجود، والعدم) في هذا العالم على هذا الأساس، وتتكون الأشياء نتيجة تجميع عدد مـن الذرات، وفساد هذه الأشياء نتيجة افتراق هذه المجموعة أو تلك من الذرات، وهكذا كـل ما يجري في هذا الكون من تغيرات.
ولقد أطلق على القائلين بهذا المذهب بالطبيعيين لأنه كان في البدء مذهبًا ماديًا صرفًا، أي طبيعي بحت، ولكي يتميزوا عن الطبيعيـين الأول" فلاسـفة أيونيـا" سُـموا بالطبيعيين الثواني.
ولما وجدت تلك المدرسة صعوبات في فهم حركات الذرات التي تتجه إلى تكـوين الأشياء أو انعدامها، فإن بعض أتباع هذا المذهب ذهب إلى أن الحركة تلقائية وذاتية في الذرة قائمة على قانون الجذب والمغناطيسية، الذي يربط بعضها ببعض، وبالتالي يكـون اجتماع الذرات وافتراقها على أساس هذا القانون وبمحض الصدفة.
والبعض الآخر قال بأنه لا بد بجانب كل ذرة من هذه الذرات ذرة أخرى روحية أو عقلية، تأخذ خصائص المدبر والمحرك.
وذهب أحد الفلاسفة الذريين "أنكسجوراس" (4) إلى رفـض مـا ذهب إليه ديمقريطس من إرجاع أصل الكون إلى الذرات، وقال إن مبدأ الموجودات هـو جسم أول متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل منهـا: كون الكون كله العلوي منه والسفلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق