أولاً : مفهوم المعرفة:
هناك اتجاهات ومداخل متعددة تناول الباحثون من خلالها مفهوم المعرفة. ويظهر أن اشمل تلك التعاريف هي التي تناول المعرفة من منظور ثنائي لدلالتها على المفهوم الشامل للمعرفة, فقد صنف (Nonake & Takeuchi) المعرفة إلى نوعين هما المعرفة الضمنية (Tacit knowledge) ، والمعرفة الظاهرة (الصريحة ) (Explicit knowledge). وميز (Daft) بينهما وأعطى لكل منهما مفهوم مختلفاً, فعرف المعرفة الظاهرة على أنها المعرفة الرسمية والمنظمة والتي يمكن ترميزها وكتابتها ونقلها إلى الآخرين بواسطة الوثائق والإرشادات العامة وتشير إلى ماله صلة بالمعرفة حول موضوع معين (knowing about), أما المعرفة الضمنية فعرفها على أنها المعرفة التي تعتمد على الخبرة الشخصية والقواعد الاستدلالية والحدس والحكم الشخصي وعادة ما يصعب وضعها في رموز أو كلمات, وتشير إلى ماله صلة بمعرفة كيف (knowing How)([1]).
وبمعنى آخر فالمعرفة الظاهرة (الصريحة) هي المعرفة المنظمة، المحدودة المحتوى، التي تتصف بالمظاهرة الخارجية لها ويعبر عنها بالرسم والكتابة وتتيح التكنولوجيا تحويلها وتناقلها, أما المعرفة الضمنية فهي المعرفة الموجودة في عقول الأفراد وسلوكهم وهي تشير إلى الحدس والبديهة والإحساس الداخلي, إنها معرفة خفية تعتمد على الخبرة ويصعب تحويلها بالتكنولوجيا بل هي تنتقل بالتفاعل الاجتماعي([2]).
وتعرفها حسانة محيى الدين المعرفة بأنها حصيلة الامتزاج الخفي بين المعلومة والخبرة والمدركات الحسية القدرة على الحكم([3]). وعرف الكبيسي المعرفة بأنها “كل شيء ضمني أو ظاهري يستحضره الأفراد لأداء أعمالهم بإتقان, أو لاتخاذ قرارات صائبة”([4]).
وقد ميز القدماء بين المعرفة من حيث هي إدراك الجزئي ( نقول عرفت الله وليس علمت الله) و ” العلم” من حيث هو إدراك الكلي ( إن الله عليم خبير ) ، أو بتعبير آخر ، فإن مفهوم المعرفة يستخدم في التصورات ، ومفهوم العلم في التصديقات والأمر يتعلق بمستوى وبنوع المعرفة المطلوبة ، إذ لابد من التمييز في العملية المعرفية ، وفي المعرفة ذاتها بين :
ــ المعرفة القبلية ، التي تستند إلى الحدس والإلهام والغريزة.
ــ والمعرفة البعدية ، التي تستند إلى الإحساس والتجارب والممارسة ، وبالتالي إلى الاستقراء Induction والاستنباط Deduction ومستلزماتهما المنهجية ، وهي بدورها تنقسم إلى مستويين معرفيين هما :
ــ المعرفة الدارجة ، التي بإمكان كل الناس الحصول عليها بواسطة حواسهم وعقولهم وخبراتهم اليومية
ــ المعرفة العلمية ، التي تعتمد القياس والتجارب ، وتستعين بالآلات ، وتخضع للتحقق والمراجعة ، وتطبق قواعد المنهج العلمي وتتحول إلى مفاهيم ومقولات ونظريات وقوانين معترف بها ،وتمثل قاسما مشتركا بين بين أذهان كثيرة ، ويمكن بالتالي نقلها من واحد إلى آخر ، ومن جيل إلى جيل([5]) .
وجدير بالذكر هنا أن المعرفة العلمية ، تستند إلى مبدأي العليّة / السببية ، والحتميّة Determinismus بمعنى أن كل ما يحدث ، إنما يحدث بعلة ، وأن نفس العلل لابد أن تنتج نفس المعلولات في حال تساوي كافة الشروط والظروف المحيطة بالعملية المعرفية . وبصورة عامة ، فإن مفهوم المعرفة عادة ما يشير إلى معنيين متداخلين ومتكاملين هما : 1- الفعل العقلي الذي يدرك الظواهر الموضوعية ( عملية انعكاس الظواهر في الوعي ) ، 2- نتيجة ذلك الفعل ، أي حصول صورة الشيء في الذهن([6]).
ثانياً: نظرية المعرفة
نظرية المعرفة قديمة قدم التفلسف وإن لم تقرر لها أبحاث مستقلة الا منذ عهد الفيلسوف الانجليزي (جون لوك) أذ كان أول من وضع هذا البحث في صورة العلم المستقل, وذلك في كتابه (مبحث في العقل البشري) الذي نشر سنة 1690. ويعد “اما نويل كنط” بعد “لوك” أعظم من كتب في نظرية المعرفة وأرسى قواعدها على أسس عليمة سليمة([7]).
وفي السياق نفسه يشير السكري([8]) إلى أن أول محاولة في تاريخ الفكر الفلسفي لوضع مشكلة المعرفة الإنسانية موضع البحث المستقل المنظم, كانت في القرن السابع عشر مع الفيلسوف الإنجليزي “جون لوك”، الذي يعد بحق أول بحث علمي منظم يتناول بالفحص والدرس أصل المعرفة وماهيتها, وحدودها ودرجة اليقين فيها. ومع ذلك, فإن البحث في المعرفة.
ومن أهم المسائل التي يتناولها البحث في نظرية المعرفة يمكن تحديد المباحث الثلاثة الآتية([9]):
البحث في إمكان المعرفة:
وهو بحث يتناول الشك في المعرفة, ويحاول أن يقدم الإجابة عن التساؤلات المطروحة: هل في استطاعة الإنسان أن يدرك جميع الأشياء؟ وهل في استطاعته أن يصل إلى جميع الحقائق؟ وهل في استطاعته أن يطمئن إلى صدق إدراكه وصحة معلوماته؟
وفي هذا الصدد اختلف الفلاسفة على مذهبين: أحدهما إيماناً مطلقاً بإمكان المعرفة, وقدرة الإنسان على بلوغ اليقين, وهذا هو المذهب الوجماطيقى. ويرفض الآخر القول بإمكان المعرفة, وينكر قدرة الإنسان على معرفة حقائق الأشياء, وهذا هو المذهب الشكي الذي كان ظهوره طبيعياً في عصر يموج بالاضطراب. ويمكن أن نميز في هذا الشك بين نوعين: أحدهما يكو مذهبياً, يبدأ به الإنسان وينتهى إليه, فيكون شكه غاية في ذاته, والآخر يكون منهجياً يبدأ به الإنسان ولا ينتهي إليه, فيكون شكه وسيلة إلى اليقين.
البحث في مصادر المعرفة:
وهو بحث في الطرق الموصلة إلى المعرفة, ويحاول هذا البحث أن يجيب عن التساؤلات المطروحة: كيف يعرف الإنسان ما حوله من موضوعات؟ وكيف يعرف هذا الكتاب, أو هذه الشجرة, أو تلك المنضدة؟ هل يعرف الإنسان الموضوعات بالحواس أم بالعقل أم بالحدس؟
وفيما يتعلق بمبحث مصادر المعرفة يمكننا أن نميز بين ثلاثة مذاهب أساسية:
-المذاهب العقلي: وهو المذهب الذي يفسر المعرفة اعتمادا على العقل وحده دون اعتماد على الحواس, أو استناد إلى تجربة, ويمثل هذا المذهب في الفلسفة الحديثة ديكارت, وسبينوزا, وليبنتز. أما ديكارت, فلم يتوقف في فلسفته عند السؤال عن طبيعة العالم, وإنما تجاوز ذلك إلى محاولة الإجابة عن كيفية معرفة الإنسان لطبيعة العالم, بعد أن جعل السؤال المعرفي: كيف أعرف؟ محوراً لفلسفته. وأما سبينوزا, فيمكن التواصل إلى المعرفة عنده بتصحيح الفهم, وتطهير العقل من الأفكار الغامضة والإدراكات المبهمة. وأما ليبنتز, فقد بين المذهب العقلي بطريقة منطقية, ومضى معه إلى نتائجه المحتومة.
– المذهب التجريبي في المعرفة: فيعتبر أن الحواس وحدها هي أبواب المعرفة, وأن التجربة هي المصدر لنهائي لكل معرفة, ويمثل هذا المذاهب في الفلسفة الحديثة جون لوك, وباركلى, وهيوم.
– المذهب الحدسي, الذي يمثله برجسون: فيرى أن مصدر المعرفة ليس هو العقل الذي يستنبط ويستدل, وليست هي الحواس التي تدرك وتحس, وإنما هو الحدس الذي يقود إلى جوهر الحقيقة, ويكشف عن الواقع بغير وساطة من عقل أو حواس.
وقد أدى هذا التنوع في مصادر المعرفة إلى تنوع آخر في موضوعات المعرفة ومجالاتها, فالمذهب العقلي يرتبط بالمعرفة العقلية التي تجعل من الرياضيات نموذجاً للعلم, أما المذهب التجريبي, فيرتبط بالمعرفة الحسية, التي تجعل من العلوم الطبيعية نموذجاً للعلم, أما المذهب الحدسي فيرتبط بالمعرفة الحدسية التي ترتكز على العلوم الدينية, والأخلاقية, والصوفية.
البحث في طبيعة المعرفة:
وهو بحث في المعرفة من حيث طبيعتها المثالية أو الواقعية, ويحاول أن يجيب عن التساؤل المطروح: هل نسيج المعرفة أو الخيوط التي تتألف منها المعرفة ذات طبيعة مثالية, أم أنها ذات طبيعة واقعية. أما عن طبيعتها: فيمكن التمييز في ذلك بين مذهبين: يذهب أحدهما إلى رد الوجود كله إلى الفكر, ويرى أن المعرفة ذات طبيعة عقلية أو روحية, وهو المذهب المثالي, وينكر الآخر إمكانية إرجاع الوجود إلى الفكر, أو تعليق المعرفة على العقل, ويرى أن للكون وجوداً مستقلاً عن إدراكها له, وأن المعرفة في طبيعتها واقعية لا تتوقف على عقل عاقل, ولا معرفة عارف, وهذا هو المذهب الواقعي. وقد ظهر المذهب المثالي في عدة صور, من أهمها: المثالية المفارقة عند أفلاطون, والمثالية الذاتية عند باركلى, والمثالية النقدية عند كانت, والمثالية المطلقة عند هيجل. كما ظهر المذهب الواقعي في أشكال مختلفة, منها: الواقعية الساذجة, والواقعية الجديدة, والواقعية النقدية.
ثالثاً: نظرية المعرفة و الابستمولوجيا
الابستمولوجيا كلمة مركبة من لفظتين: ابستما (episteme) وتعني العلم, لوغوس Logos وتعني النظرية أو الدراسة. فتكون الابستمولوجيا إذن نظرية العلوم أو فلسفة العلوم أو دراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ونتائجها دراسة انتقادية توصل إلى إبراز أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية([10]).
وكان أول من وضع هذا المصطلح الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرييه (1808 – 1864) حين ألف كتابه مبادئ الميتافيزيقا. أما المعنى المعاصر لمصطلح إبستيمولوجية في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية. ومع أن مفهوم «العلم» حاضر في تاريخ الفلسفة، ولاسيما عند أفلاطون وأرسطو وديكارت ولوك وليبتنز فإن الإبستيمولوجية بوصفها مبحثاً مستقلاً موضوعه المعرفة العلمية، لم تنشأ إلا في مطلع القرن العشرين حين اتجهت إلى تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم، والخطوات التي يتألف منها، وإلى نقد العلوم والعودة إلى مبادئها العميقة. وذلك بتأثير التقدم السريع للعلم، والاتجاه نحو التخصص المتزايد، وما ولدّه ذلك من تغيّر في بنية منظومة العلوم، ومن صعوبات وإشكالات ذات طبيعة نظرية([11]).
وفي حين تتناول نظرية المعرفة عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث طبيعتها وقيمتها وحدودها وعلاقتها بالواقع، وتبرز – بنتيجة هذا التناول – اتجاهات اختبارية وعقلانية ومادية ومثالية، فإن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط. وإذا كانت الإجابات التي تقدمها نظرية المعرفة (إطلاقية) وعامة وشاملة، فإن الإبستيمولوجية تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة. بل ترى الإبستيمولوجية في التعميمات الفلسفية لنظرية المعرفة عائقاً أمام تطور المعرفة العلمية. ذلك أن التصورات الزائفة عن المعرفة تؤثر سلبياً في مجال المعرفة العلمية، وخاصة حين تضع حدوداً للعلم. والإبستيمولوجية ليست استمراراً لنظرية المعرفة في الفلسفة بل هي تغير كيفي في النظر إلى علاقة الفلسفة بالعلم، وتجاوز للتناقض بين نظرية المعرفة والعلم([12]).
وتنقسم الابستمولوجيا إلى([13]):
- الفلسفة الوضعية (Positivism) وهي فلسفة تعتمد على الارقام لان الارقام لا تكذب بنظرهم.
- الفلسفة التفسيرية (Interpretivism) أو الفينومينولوجيا (Phenomenology) وهي فلسفة تعتمد على الشرح.
- الفلسفة الواقعية (Realism) وهي فلسفة تقع بين الفلسفة الوضعية والتفسيرية.
رابعاً: نظرية المعرفة عند الفلاسفة
منذ فجر التاريخ كان للفلاسفة القدامى امثال سقراط وافلاطون ومن تبعهم من أعلام الفلسفة الحديثة والمعاصرة كان لهم أثر بعيد في تطور نظرية المعرفة خاصة والفكر الفلسفي عامة، فديكارت كممثل العقليين ولوك وهيوم للتجريبيين, وكنط النقديين, وهيجل للمثاليين, وكونت للوضعية, وبرجون للحدسية, ووليم جيمس وجون ديوى للبراجماطية, وكارل ياسبرز للوجودية وغيرهم([14]). ويمكن تتبع الفكر الفلسفي في المعرفة ضمن المراحل التالية([15]) :
وسنستعرض هنا نماذج من نظريات المعرفة وفقا لأصحابها:
نظرية المُثُل لأفلاطون (428 ـ 347 ق.م)([16]):
رأى أفلاطون أن المعرفة الجدلية هي المعرفة الفلسفية الحقة. وهي تساعد على الارتقاء من الأفراد المحسوسة إلى الأنواع، ومن الأنواع إلى الأجناس. ومن تبين الصفات المشتركة بين الأجناس يتم الوصول إلى الماهيات أو المُثُل. ويقوم العقل عن طريق الجدل الصاعد باستخلاص المعاني الضرورية للحكم على المحسوسات. وفوق العقل تقوم المعاني المجردة لكل الأشياء في عالم مستثقل هو عالم المُثُل. وكل جسم أو شيء يشارك في واحد من تلك الموجودات المجردة أو المثل فيتشبه به يحصل على شيء من كماله. فكما أن مجموع الأجسام يؤلف العالم المحسوس كذلك فإن مجموع المثل يؤلف العالم المعقول. وهو العالم الموجود حقاً، وما وجود الأشياء إلا ظلال وأشباح لهذا العالم العلوي. ولمعايشة النفس عالم المثل قبل نزولها إلى هذا العالم، فإن معرفتنا الحقيقية بالأشياء تعود إلى «تذكر» المثال من غير رؤية الأشياء الحسية. توفر المُثُل للفيلسوف الصورة الكاملة للعلم الحقيقي وللوجود الخالد، وهما حقيقتان متكاملتان. وقد رد أرسطو على نظرية المُثُل هذه رافضاً وجودها في عالم منفصل ومستقل عن المادة بربطه بين الصورة والمادة ربطاً يسقط المُثُل (أو الصور) من عالم مفارق إلى عالمنا الأرضي.
نظرية المعرفة عند أرسطو (384ق.م -322 ق.م)([17]):
إِذا كان القياس, بطبيعته ومقوماته وشروطه, يكوّن الجانب الشكلي من المعرفة, فإِن امتلاك الوسائل, للاستدلال بها على حقيقة المقدمات وعلى الأسس التي تقوّمها, يكوّن جانبها المادي, أي مضمونها المتصل اتصالاً وثيقاً بالقياس البرهاني, الذي خصص له أرسطو كتاب «التحليلات الثانية». فكل «تعليم وكل تعلّم, على طريق الاستدلال, إِنما يكون من معرفة متقدمة هي معرفة الوجود». وهذه المعرفة نوعان: معرفة وجود الشيء, ومعرفة ماهيته. فبالمنطق ندرك ماهية الشيء, وبالأنطولوجية ندرك وجوده, على طريق النظر والمشاهدة. فقد يعلم الطالب أن زوايا المثلث تساوي قائمتين, لكنه لا يعلم, مع ذلك, أن الشكل مثلث إِلا بعد إِعمال الفكر فيه. «إِن الناس جميعهم يرغبون في المعرفة», ويكتسبونها عن طريق الإِحساسات ولاسيما النظرية منها. وخبرة الإِحساسات هذه تتجمع في الذاكرة, فتمكنهم من الارتقاء إِلى مستوى الفن والإِدراك العقلي. بيد أن المعرفة الحقيقية أسمى من الفن, لأنها متحررة من المحسوس أكثر منه, ولأنها, خلافاً له, تبتغي الوصول, على طريق تأمل الموضوع, إِلى العلم والمعرفة, وبالتالي إِلى إِدراك المبادئ والعلل. فالمعرفة الحقيقية, هي: أولاً معرفة نظرية وعقلية للعلة, وثانياً معرفة ترتبط جميع أجزائها بمبدأ واحد وفق درجات ومستويات مختلفة, وثالثاً معرفة ضرورية وأكيدة وجديرة بأن تُعلّم, لأنها أسمى من كل الأشياء, ورابعاً, إِلهية, لأن موضوعها الموجود السامي, مبدأ الموجودات وغايتها. وهكذا فإِن المعرفة الحقيقية هي الحكمة التي يبحث صاحبها عن المعرفة من أجل المعرفة, لا من أجل شيء آخر. فحب المعرفة من أجل المعرفة, والرغبة في البحث المجرد عن علل الموجودات وغاياتها هما اللذان يؤلفان أصل المعرفة وجوهر الحكمة.
نظرية المعرفة عند ديكارت
شك ديكارت في المعرفة الحسية سواء منها الظاهرة أو الباطنة، وكذلك في المعرفة المتأتية من عالم اليقظة، كما شك في قدرة العقل الرياضي على الوصول إلى المعرفة، وشك في وجوده، ووجود العالم الحسي، إلى أن أصبح شكه دليلا عنده على الوجود، فقال “كلما شككت ازددت تفكيرا فازددت يقينا بوجودي”([18]). وقد لخصت معايطة سمات المدرسة الديكارتية في النقاط التالية([19]):
– رائد هذه الحركة رينيه ديكارت، إذ وجد في الرياضيات اليقين والوضوح ،بدأ حياته الفكرية عالماً لا فيلسوفاً.
– وضعت منهج يسترشد به العقل للوصول إلى المعرفة اليقينية .
– وضعت شروطا حاسمة للوصول بالمرء إلى المرتبة الأسمى في المعرفة العقلية أو الفطرية التي يتقبلها النفس فقط.
– اتبعت منهج الشك المنهجي للوصول إلى الحقيقة وهي أساساً للمعرفة ، إذ شككت في شهادة العقل وشهادة الحواس ، وبدأت بأبسط الأشياء بداهة ، أي البدء بأبسط الأشياء وأوضحها بعد شكه بالأشياء ، فأثبتت وجود النفس ووجود الله ثم وجود العالم الخارجي.
– قسمت طبقات المجتمع تبعا لنصيب كل فرد من المعرفة، فوضعت منهجا عقلياً ليسير عليه الباحث في المعرفة.
– إن الله الضامن للحقيقة والكفيل بصدق أفكارنا الواضحة المتميزة.
– أيضاً من صميم منهج هذه المدرسة أن النور ينبغي تلمسه في النفس لا في الأشياء.
نظرية المعرفة لدى كانط([20])
يرى كانط أن هناك مصدران للمعرفة، وهما الحساسية والفهم، ونقصد بالحساسية بأنها هي المسؤولة عن تنظيم الانطباعات الحسية المتفرقة التي تقدمها التجربة على شكل مدركات حسية، أي أنها تقدم لنا الموضوعات، بينما الفهم هو الذي يحول تلك المدركات الحسية إلى معرفة وذلك بواسطة مقولات قبلية تنصب فيها معطيات التجربة الحسية، فتتحول إلى معرفة، ويقصد بالفهم أنها تقوم بتعقل تلك الموضوعات، وقد ميز كانط بين ثلاثة أنواع من المعرفة:
• معرفة قبلية تحليلية Analytical priori : وتتميز بالدقة والثبات إلا أنها غير كافية للتعليم Uninformative حيث لا توضح إلا ما يتضمنه التعريف Definition.
• معرفة بعدية مُخلقة Synthetic posteriori : وتُنتج معلومات عن العالم الخارجي نتيجة التعلم من الخبرات، وهي عرضة للوقوع في الخطأ بسبب اعتمادها على الحواس.
• معرفة قبلية مُخلقة priori Synthetic : وتنتج عن الحدس الخالص Pure intuition وتتميز بالدقة والثبات لأنها تعبر عن الحالات الأساسية التي تنطبع على العقل نتيجة الخبرة بالأشياء، وطبقاً لكانط فهذا النوع من المعرفة تنتجه الفلسفة والرياضيات. من هذا المنطلق يتضح لنا أن المعرفة في نظر كانط هي عملية معقدة صعبة يساهم فيها كل من العقل والحواس. هكذا يبدو لنا أن العقل عند كانط يتجسد في شكل بناء مقولات أو الصور القبلية التي ستكون عديمة الفائدة لولا معطيات التجربة الحسية.
• معرفة قبلية تحليلية Analytical priori : وتتميز بالدقة والثبات إلا أنها غير كافية للتعليم Uninformative حيث لا توضح إلا ما يتضمنه التعريف Definition.
• معرفة بعدية مُخلقة Synthetic posteriori : وتُنتج معلومات عن العالم الخارجي نتيجة التعلم من الخبرات، وهي عرضة للوقوع في الخطأ بسبب اعتمادها على الحواس.
• معرفة قبلية مُخلقة priori Synthetic : وتنتج عن الحدس الخالص Pure intuition وتتميز بالدقة والثبات لأنها تعبر عن الحالات الأساسية التي تنطبع على العقل نتيجة الخبرة بالأشياء، وطبقاً لكانط فهذا النوع من المعرفة تنتجه الفلسفة والرياضيات. من هذا المنطلق يتضح لنا أن المعرفة في نظر كانط هي عملية معقدة صعبة يساهم فيها كل من العقل والحواس. هكذا يبدو لنا أن العقل عند كانط يتجسد في شكل بناء مقولات أو الصور القبلية التي ستكون عديمة الفائدة لولا معطيات التجربة الحسية.
خامساً: نظريات علمية حديثة
وفي القرن التاسع عشر بعض النظريات مثل نظرية الملكات التي تفترض أن العقل البشري مقسم إلى ملكات مثل ملكة التفكير والوجدان والإدارة، والتي تبرز ما يقوم به العقل. وكذلك النظرية الترابطية، التي افترضت أن الإنسان عندما يخلقه الله (سبحانه وتعالى) يكون عقله صفحة بيضاء تسجل فيها الخبرات عن طريق الحواس. ومن النظريات الحديثة كذلك تأتي نظرية النشاط (Activity Theory)، والتي تعود جذورها إلى علم النفس الروسي وهي تميل إلى تجنب الانقسام بين التفكير والعمل والأفراد والمجتمع، واهتمت هذه النظرية باكتشاف العلاقة بين الفعل المادي والعقل واكتشاف الروابط بين الفكر والسلوك([21]).
سادساً : نظرية المعرفة من التصور الإسلامي
إن الشريعة الإسلامية تمتاز عن غيرها بالواقعية في مواجهة الحياة وفي مجال القضايا الاجتماعية والفردية، وبالحفاظ على سمة الاعتدال بين المادية المحضة والمعنوية الخالصة، وجاء الإسلام أيضا ليحرر العقل من الخرافة والجهل والتخلف, ودعا الإنسان ليفتح عقله باتجاه حقيقة الحياة دون افتعال لأي خصومة بين العقل والدين أو بين الدين والعلم , ففي الإسلام لا يضطر الإنسان لأي خرافة من أجل الإيمان بالله أو لاكتشاف حقيقة الحياة والكون فكانت المعرفة في الإسلام جزء من الإيمان. وتتميز المعرفة في التصور الإسلامي بعدد من السمات البارزة:
- إن الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته تعالى هو المبدأ الأول للإسلام، والوحدانية هي نقطة البحث عن الحقيقة أو المعرفة في الفكر الإسلامي؛ حيث إن وجود الله تعالى وإرادته وأفعاله هي الأسس الأولى التي يقوم عليها بناء كل الكائنات وكل المعارف وأنظمتها.
- لكي يحصل الإنسان على المعرفة يجب أن يتنزه الإنسان عن تكرار ارتكاب المعاصي والذنوب ليهدي الله الحواس والعقل لتلمح النور ويقودها إلى البصيرة والإدراك.
- يؤكد الخالق -عز وجل- على دور الحواس في اكتشاف المعرفة المحيطة بالإنسان، كذلك النظر العقلي والتأمل والتفكر في الكون ومكوناته، كما دعا الخالق -عز وجل- إلى عدم تقليد السابقين، لأن التقليد يُعطل العقل عن البحث وإدراك الحقيقة.
- إن المعرفة في الرؤية الإسلامية ليست غاية في حد ذاتها، ولكن لا بدّ أن تلحقها مرحلة أخرى تتمثل في السلوك أو العمل.
- التصور الإسلامي للمعرفة متكامل لا يعرف التنافر، ولا يحتوي على القطيعة المعرفية بين أجزائه؛ فهناك تكامل بين الوجود والوحي، وتكامل بين النظر والعمل، وتكامل بين المعرفة العلمية والمعرفة الغيبية، وكل ذلك نابع من تجليات مبدأ التوحيد في وحدة الحقيقة.
- إن المعرفة منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، وهي تشمل كل ما يعرفه الإنسان عن الماضي والحاضر والمستقبل بشتى الوسائل والطرق.
- المعرفة يجب أن تكون قطعية بحيث يمكن الجزم بها ، أما المعارف الظنية أو الوهمية أو الشكية فلا اعتبار لها
- إن المعرفة الإنسانية الحقيقية هي التي تأتي عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة. وعمليات التجريب المختلفة التي تقوم بها هذه الحواس، مع الموازين العقلية والفطرية والمكتسبة، بالإضافة إلى كل ما يوحي به الله لأنبيائه أو عباده الصالحين.
- إن المعرفة الإسلامية تؤكد أهمية المعرفة عن طريق الوحي وتعتبرها أهم أنواع المعرفة إذ تكشف للإنسان عن أمور لا يمكن أن يدركها بوسائله الحسية والعقلية المحدودة، وهي الوحيدة التي تبلغ درجة اليقين.
- الإنسان هو خليفة الله في الأرض من العناصر الهامة التي تشكل التصور الإسلامي للمعرفة في تحديد مركز الإنسان من العالم باعتباره حاملاً للأمانة الإلهية مما جعله خليفة لله في أرضه، إن مضمون الخلافة هو إعمار الكون والإصلاح فيه وعبادة الله سبحانه وتعالى([22]).
وكنموذج للتصور الإسلامي لنظرية المعرفة نتناول هنا ابن قيم الجوزية 691 – 751 هـ ونظريته في المعرفة([23])، حيث يتطرق إلى مصادر متعددة للمعرفة، ومن أبر هذه المصادر:
1- الوحي (القرآن والسنة) : ويرى أن الوحي تكليم باعتبارين : عام وخاص، ويعتبر الإيهام نوع من الوحي ولكنه متعلق بغير الأنبياء، ويرى من أنواع الوحي التحديث والرؤية الصادقة، والفراسة.
2- الحواس والعقل: ويحدد ابن القيم العلاقة بين الحواس والدماغ والذي يتكون بدوره من ثلاثة أقسام :
أ- القسم المقدم، محل الحفظ والتخيل.
ب- البطن الأوسط، محل التأمل والتفكير.
ت- القسم الأخير، محل التذكر والاسترجاع.
ويقسم ابن القيم العقل إلى :
أ- غريزي : وهو أب العلم ومربيه ومثمره.
ب- مكتسب مستفاد: وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته.
وابن القيم يقدم النقل على العقل وفي نفس الوقت لا يستبعد العقل وإنما يعرفه بدوره ولكن يشترط انضباطه بضوابط شرعية وهذا حتى لا يضل ولا يتيه، لأن العقل كما يرى أبن القيم محدود وله مجال يجب أن يتحرك فيه لا يتجاوزه، ومن ذلك أنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا الرأي هو ما ذهب إليه إمانويل كانط عند أثبت أن العقل عاجز عن إدراك وجود وماهية الميتافيزيقا. ومع هذا فإن العقل عند ابن القيم حجة في اثبات العقائد الإيمانية. كما يجب استخدامه في مجالاته من خلال التفكير والتدبر في آيات الله.
وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الكبير والجليل الذي تبناه علماء الأمة الإسلامية وقيامهم بأسلمة العدد يد من الرؤى الفلسفية وإضفاء نور الحق عليها وتقويمها خاصة أنها في عدد من مباحثها تلامس مسائل عقدية وإلحادية حساسة قيض الله لها الراسخون في العلم لمواجهة انحرافاتها واستثمار النافع منها. كما كانت تلك الأدوار المميزة سببا في إظهار نور الحق ودخول عدد من الفلاسفة في الإسلام بعدما تبين لهم ما كانوا عليه من باطل وزيغ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق