بدأ التفكير الفلسفي عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، وقد مـرت الفلسـفة اليونانية بعدة مراحل، تتميز كل مرحلة عن غيرها بسمات خاصة ومختلفـة، من حيـث الموضوعات التي تناولها الفلاسفة في كل مرحلة، ويمكن تقسيم الفلسفة اليونانية إلى أربع مراحل:1. الفلسفة اليونانية قبل سقراط.2. فلسفة السفسطائيون وسقراط.3. فلسفة أفلاطون وأرسطو.
المرحلة الأولى: الفلسفة اليونانية قبل سقراط.
وموضوع هذه المرحلة الكون الطبيعي لمعرفة الأصل الذي نشأ عنه، وقـد مرت الفلسفة في هذه المرحلة بعدة أدوار، تميز كل دور بمميزات خاصة تميزه كليـًا أو جزئيًا عن الدور الآخر، وهذه الأدوار هي:الأول ـ الذي تمثله المدرسة الأيونية على يد الفلاسفة الطبيعيين، وعلى رأسهم طاليس.الثاني ـ الذي تمثله المدرسة الفيثاغورية، على يد الفيلسوف فيثاغورث.الثالث ـ الذي يمثله الفلاسفة الإيليون، ومن أشهرهم بارمنيدس.الرابع ـ الذي يمثله الطبيعيون المتأخرون، ومن أشهرهم ديمقريط.وسنتناول كل مدرسة بإيجاز:المدرسة اليونية) الطبيعيون الأُول):تعد مدرسة الطبيعيين الأول أول مدرسة ظهر فيها التفكير الفلسفي المنظم فـي بلاد اليونان، وقد قامت هذه المدرسة في مقاطعة أيونيا بآسيا الصغرى على ساحل البحـر الأبيض المتوسط، وزعماؤها أربعة هم :طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمنس، وهيراقليطس، بحـث هـؤلاء الفلاسفة في الأصل الذي نشأ عنه العالم، واتفقوا أن هذا الأصـل مـادة موجـودة فـي الطبيعة، ولكنهم اختلفوا في تعيين هذه المادة.أولًا ـ طاليس ومذهبه الفلسفي:ذهب طاليس إلى أن الماء هو أصل الأشياء ومبدأ الموجودات، منه بـدأ وإليـه ينحل، وهو الجوهر الأساس الذي تولدت عنه كل الموجودات، وأن المـاء قابـل لكـل صورة، وأنه حين جمد الماء تكونت الأرض، وحين انحل تكون الهواء، ومـن صـفوة الهـواء تكونت النار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتغال الحاصل مـن الأثيـر تكونت الكواكب، وذلك كله قياسًا على أن جميع الحيوانات أساسها من الجوهر الرطب الذي هو المني، فأوجب أن يكون مبدأ جميع الأشياء من الرطوبة … إلى غير ذلك من الأدلة.ويمكن أن يقال إن فكرة طاليس عن الكون ترجع إلى الخرافـات والأسـاطير البابلية والمصرية، وهي ذات نزعة وثنية مادية.ثانيًا ـ أنكسمندر ( أنكسماندريس ) ومذهبه الفلسفي:رفض أنكسمندر رأي طاليس أن الماء هو أصل الكون، ورأى أن أصل الأشياء جسم موضوع الكل لا نهاية له، ولم يبين ماهيته، وأن هذا الجسم مزيج من المتضـادات مـن الطويـل والقصـير، والصغير والكبير، والحار والبارد … وهكذا.وقال أن هـذه الأشـياء كانت في البدء شيئًا واحدًا وجدت فيه هذه المعاني متعادلـة متكافئـة، وبفعـل التطـور والحركة حدثت انفصالات واجتماعات بين بعضها والبعض الآخر بنسب معينة وبمقادير متفاوتة؛ فتكونت عنها الأشياء الطبيعية، والتغيير يحصل بشـكل آلـي مجرد وبمحض الصدفة، فليس هناك علة فاعلة، وليس هناك غاية من وراء الفعل.ثالثًا ـ أنكسيمانس ( أنكزمينس ) ومذهبه الفلسفي:قال بوجود إله أزلي لا أول له ولا آخر، هو مبدأ الأشياء، ولا بدء له، هو المدرك من خلقه، أنّه هو فقط، وأنه لا هوية تشبهه، وكـل هوية فمبدعة منه، وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع، فقد كانت صورته في علمه الأول.وذهب أنكسيمانس إلى أن أصل الكون هو الهواء، وهو المبدأ الأول للوجود، ومنـه تكـوَّن جميع ما في العالم من الأجرام العلوية والسفلية، وتتولد منه الأشياء عن طريـق التخلل والتكاثف، فإذا تخلخل الهواء صار نارًا، ومن النار تولدت كل الأشـياء الناريـة؛ كالكواكب والنجوم مثلًا، وإذا تكاثف الهواء نشأت عنه الرياح والعواصف والسحب ثـم الأمطار، ثم تتكاثف الأمطار فينتج عنها الأتربة والرمال والصخور.
رابعًا ـ هيراقليطس ومذهبه الفلسفي:
ذهب إلى أن أصل الكون هو النار، وهي المبدأ الأول للوجود، ولكنه لا يقصد النار المحسوسةالحارقة، إنما هي نار إلهية لطيفة جدًا!!
يقول: إن مبدأ الموجودات هو النار، فمـا تكاثف منها وتحجَّر فهو الأرض، وما تخلخل منالأرض بالنار صار ماء، وما تخلخـل من الماء بالنارصار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صـارنـارًا، فالنار مبدأ، وبعدها الأرض، ثم الماء ثم الهواء،وبعدها النار.
والتغيُّر يجري في طريقين: طريق إلى أسفل،وطريق إلى أعلـى، ومـن تقابل هذين التيارين تتكونالموجودات من الحيوان والنبات، وأهم ما يميزمذهبه: قوله بالتغيُّر الدائم في الكون.
المدرسة الفيثاغورثية ومذهبها الفلسفي
يرون أن أصل الكون هو العدد!! لأنه أشبه بعالم الأعداد منه بعـالم المـاء أو النارأو الهواء،فالعدد أول مبدع أبدعه الباري تعالى، وأول العدد الواحد، وأن مبـادئ الأعداد هي عناصرالموجودات،لأن الموجودات أعداد، وكـذا النغم الذي تتكون منه الفواصل الموسيقية، لا يتميز عن غيره إلا بتناسببـين وحداتـه المختلفة تجعل من مجموعها صوتًا ونغمًا يألفه السمع، والعالم على هذا مركب من عددونغم.
ولا يمكـن للأشياء عندهم أن يتمايز بعضها عن بعض إلا بالعدد؛ فمثلاً الأطول يتميز عنالأقصر والأكبر عن الأصغر بزيادة وحدات وعدد فقط، لا بزيادة شيء خارج عن العدد.
وقالوا في بيان نظريتهم: العدد أصل لجميع الكائنات، فالواحد هو النقطة، والاثنين هما الخط،والثلاثة السطح، والأربعة الجسم، والخمسة هي الصفات المادية، والستة هـي الحياة، والسبعة العقل … الخ.
المدرسة الإيلية أو الإيليائية ومذهبها الفلسفي
ترى تلك المدرسة أن أصل الوجود هو الوجود نفسه، فليس في الكون كلـه إلا هـذه الحقيقة،ألا وهي حقيقة الوجود، وإذا أردنا وصف هذا الوجود بشيء فلا نستطيع وصفه إلا بأنه موجود، وعنهذا تنشأ وجودات الأشياء، ويتميز بعضها عـنالبعض بمقدار ما فيها من هذه الحقيقة الأولى.
ولقد كان طابع هذه المدرسة عقليًا، وقد اهتمت في البحث عن أصل العالم الروحـي، ولمتهتم إلا قليلًا بأصله المادي.
الفلاسفة الطبيعيون المتأخرون :
ينحصر مذهبهم في القول بأن أصل العالم هو الذرة، ويفسرون الكون والفسـاد (الوجود، والعدم) في هذا العالم على هذا الأساس، وتتكون الأشياء نتيجة تجميع عدد مـن الذرات، وفساد هذه الأشياءنتيجة افتراق هذه المجموعة أو تلك من الذرات، وهكذا كـل ما يجري في هذا الكون من تغيرات.
ولقد أطلق على القائلين بهذا المذهب بالطبيعيين لأنه كان في البدء مذهبًا ماديًا صرفًا، أيطبيعي بحت، ولكي يتميزوا عن الطبيعيـين الأول” فلاسـفة أيونيـا” سُـموا بالطبيعيين الثواني.
ولما وجدت تلك المدرسة صعوبات في فهم حركات الذرات التي تتجه إلى تكـوين الأشياء أوانعدامها، فإن بعض أتباع هذا المذهب ذهب إلى أن الحركة تلقائية وذاتية في الذرة قائمة على قانونالجذب والمغناطيسية، الذي يربطبعضها ببعض، وبالتالي يكـون اجتماع الذرات وافتراقها على أساسهذا القانون وبمحض الصدفة.
والبعض الآخر قال بأنه لا بد بجانب كل ذرة من هذه الذرات ذرة أخرى روحية أو عقلية،تأخذ خصائص المدبر والمحرك.
وذهب أحد الفلاسفة الذريين “أنكسجوراس” إلى رفـض مـا ذهب إليه ديمقريطس من إرجاعأصل الكون إلى الذرات، وقال إن مبدأ الموجودات هـو جسم أول متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفةلا يدركها الحس، ولا ينالها العقل منهـا: كون الكون كله العلوي منه والسفلي.
وربما تلحظ في تلك المرحلة أن الانشغال بأصل الكون كان هو الأمر الرئيس، أضف إليه الديانة الوثنية الإغريقية؛، مما أحدث نوعًا من الفساد العقلي من جانب العقائدي والنظرة عن الإله، مما كان له أبلغ الأثر بعد ذلك حينما كتب بولس المسيحية.
المرحلة الثانية… أولًا: السوفسطائيون
وفي هذه المرحلة نجد أن موضوع الفلسفة قد تغير؛ إذ أصبح موضوع يدور حول الإنسان بدلًا منالكون الطبيعي المحسوس، وذلك أن السفسطائيين قد حوَّلوا البحث الفلسفي من الطبيعة إلى الإنسان بعد، أنرأوا عدم جدوى البحث في العالم الطبيعي.
ونتيجة اختلاف الفلاسفة في بيان أصل العالم، وتناقض أقوالهم في ذلـك حـدث ارتياب لدى الناس،وظهر جماعة من الفلاسفة يوجهون النقد والتشكيك لآراء الفلاسـفة السابقين، ثم اتسعت دائرة النقدوالتشكيك لتشمل أمورًا أخرى بجانب النظريات الفلسفية؛ مثل العقائد الدينية وسلوك الإنسان في حياته، وحقائقالأشياء.
كذلك لما ظهرت في عصر السوفسطائيين أسباب النزاع والخلافات أمام المحاكم في الجانبالسياسي نشأ الجدل والخطابة وفنون الحوار والمحاورة، وأصبح التزود بمثل هذه الأمور ضرورة للتغلب علىالخصوم في المناقشات والمحـاورات، ووسـيلة للظهـور والترقي في الحياة السياسية، بغض النظر عن تحريالحق في ذاته أو الوصـول إلـى الصواب.
في هذا الجو المشحون بـالتمرد والإلحـاد واتساع دائرة النقد والتشكيك، ظهرت جماعة السوفسطائيينالذين كـانوا مـرآة صـافية انعكست فيها صورة هذا العصر.
مذهب السوفسطائي:
ذهب السوفسطائيون إلى أنه ليست هناك قضايا عامة تتساوى العقول في إدراكها فالإنسان وحده هومقياس كل شيء، فما يراه حقًا فهو حق بالنسبة إليه، وما يراه بـاطلًا فهو باطل بالنسبة إليه، بمعنى كان شعار السوفسطائيين: “الإنسان مقياس كل شيء” أو “الحقائق نسبية”.
ولما كانت الخطابـة من أهم العلوم التي تهيئ الإنسان للنجاح السياسي؛ فقد اختص السوفسـطائيونبتعليمهـا للشباب الأثيني الراغب في الوصول إلى السلطة والمشاركة في السياسة، وكان السوفسطائيون يعلمونالناس بالأجر، وكان كل سوفسطائي قد اختص بعمل معين اشـتهر بـه، وكرَّس حياته ونفسه له.
وهكذا هدم السوفسطائيون قواعد الأخلاق، وأنكروا الآلهة بالإضافة إلى إنكارهم حقائق الأشياء،وقالوا لا وجود لها إلا في الخيال، وهكذا صار الأمر فوضـى وأصـبح الناس أحزابًا متفرقة في آرائها.
أشهر فلاسفة السوفسطائيين:
1 ـ بروتاجوراس (484 ـ 410 ق.م):
يعد بروتاجوراس من أشهر الفلاسفة السوفسطائيين، وتعد آراؤه مصدرًا لمذهب هـؤلاء الفلاسفة، وقد ألف بروتاجوراس كتابًا بعنوان “الحقيقة”، شكك فيه في وجود الآلهة، واعتبر الإنسان مقياس الأشياء جميعًا،ولكون الناس كثيرين فإن إحساسـات النـاس متعددة ومتناقضة أحيانًا، والحواس هي وسيلة الإدراك الوحيدة ومالايدرك بهـا فلـيس موجودًا.
ومما جاء في كتابه قوله: ( لا أستطيع أن أعلم إن كانـت الآلهـة موجـودة أم غيـر موجودة، فإن أمورًاكثيرة تحول بيني وبين هذا العلم، أخصَّها غموض المسألة وقصـر الحياة ).
ومن أقواله أيضًا: ( المعرفة نسبية وليست مطلقة، وان لكل قضية جانبين يناقض أحدُهما الآخر، ولا شيء أصدق من شيء، لكنه قد يكون أفضل منه بالقياس إلى منظور الفرد ).
أراؤه الفلسفية:
1. إن الحقيقة المطلقة غير موجودة، لأن الحقائق تتعدد بتعـدد الأشـخاص واخـتلاف أحوالهم.
2. يمتنع وقوع الخطأ، لأنه يمكن أن نتصور في شيء ما خلاف ما نتصوره عليه فـي وقت ما، فالحقيتعدد.
3. إن الفرد مقياس الخير والشر والعدل والظلم.
2 ـ جورجياس(375 -480 ق .م):
ألف جورجياس كتابًا باسم “اللاوجود” أثار فيه جملة مزاعم، ومن أقواله أنه: ( لايوجد شيء، وإذا كان هناك شيء، فإن الانسان قاصر عن إدراكه، وإذا افترضنا أن الانسان أدرك ذلك الشيء؛ فإنه لا يستطيع إبلاغه إلى الآخرين ).
فرق السفسطائية:
والسفسطائيون يمكن القول بأنهم يندرجون جميعًا تحت ثلاث فرق:
1- اللاأدرية ( Agnosticism ): وهم يؤمنون باستحالة التعرف على وجود الله، والتوصل لهذا الإيمان ضمن شروط الحياة الإنسانية، ومن أقوالهم: ( نحن شاكون وشاكون، فيَّ أنا شاكون )،وهؤلاء هم الشكَّاك في الحقائق.
2- العنادية: وهم الذين يقولون ما من قضية بديهية أو نظريـة إلا ولهـا معارضـة أو مقاومة لمثلها فيالقوة والقبول عند الأذهان.
3- العِندية: وسموا بذلك لأنهم يرون أن الحقائق حق عند من عنده حق، وهـي باطـل عند من عندهباطل، وأن مذهب كل قوم حق بالقياس إليهم، وباطل بالقيـاس إلـى خصومهم، وقد يكون طرفًاالنقيضين حقًا بالقياس إلى شخصين، وليس فـي نفـس الأمر شيء بحق.
يقول الشيخ أحمد شاهين: ( السوفسطائيون ثلاثة أقسام؛ العِندية، والعنادية، واللاأدرية: فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها لأنهم أقيسة الحقائق، والعنادية تجزم بأن لا حقائق في الكون؛ لا في ذاتها ولا بالقياس إلى المؤمنين بها، وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيء؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم ).
ويقول الشيخ عبد القادر بدران: وهم فرقٌ ثلاث:
إحداهن اللاأدرية: سموا بذلك لأنهم يقولون: لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه، بل نحن متوقفون في ذلك.
الثانية: تسمي العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً وعُمدَتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض، والقدح في كل مذهب بالإشكالات المتجهة عليه من غير أهله.
الثالثة: تسمى العندية نسبة إلى لفظ “عند”؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئًا فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده ).
وقد ظهر فلاسفة نصبَّوا أنفسهم لمعارضة السوفسطائيين وبيان ضلالهم، ومـن هؤلاء الفيلسوف اليونانيسقراط، الذي ذاع صيته واشتهرت فلسفته.
المرحلة الثانية….. ثانيًا: سقراط
مثل الحقبة التي عاش فيها سقراط نهاية المرحلة الثانية من تطور الفلسفة اليونانية وإنتهاء عصر السوفسطائيين؛ وقد افتتح سقراط بفلسفته مرحلة جديدة في ازدهار الفلسفة اليونانية، ومهَّد لتلميذه أفلاطون تطوير هذه الفلسفة الى مجالات واسعة، انتهت إلى ذروتها على يد تلميذ الأخير أرسطو.
وقد كان سقراط حكيمًا، امتاز بسرعة الفهموحدة الذهن، وحضور البديهة والبراعة في إخفاء سخريته، وطبع بمزيج غريب من الـتحكم فـي الـنفس،والمهـارة والحماس وبراعته في المناقشات، والدقة في كشف خداع الناس له.
ولقد ذاع صيت سقراط، واشتهر أمره في زمانه، ورغم ذلك تألَّب الناس عليه لأنه نهى الرؤساءفي زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان، فاتهموه بالإلحـاد وإنكـار آلهـة اليونان، والدعوة إلى آلهة جدد،وإفساد عقول الشباب، نتيجة ذلك قُدِّم للمحاكمة؛ فحكـم عليه بالإعدام بسقايته سم الشوكران، مات وعمـره سبعين سـنة 399 ق.م.
فلسفةسقراط:
تدور فلسفة سقراط حول موضوع واحد هو الإنسان، وإذا ما تناولـت الكـون الطبيعيوموجوداته الحسية وظواهره؛ فإنما لكونها مركز الإنسان وبيئته، ومكان نشأته ونموه، ويمكن القول بأنالأساسين الكبيرين لكل آرائه هما:
1- اعتقاده بوجود الحقيقة، وبإمكان معرفتها.
2- ربطه العمل بالعلم، أي جعله المعرفة أساسًا للسلوك.
والذي يهمنا من فلسفة سقراط أمران، وهما اللذان يمثلان الصورة المتباينة عن فلسفة السوفسطائيين:
الأول: تحديده لمنهج المعرفة لما يترتب عليه من تحول كبيـر فـي موضـوع الفلسـفة ومنهجها في تاريخالفكر اليوناني.
الثاني: تحديده لمفهوم الفضيلة لما يترتب عليها من وجهة نظره الأخلاقية.
أولًا: المعرفة:
كان السوفسطائيون يرون أن المعرفة مقصورة على الإحسـاس، وهـي لـذلك تختلف باختلافالأشخاص، فما يراه الشخص حقًا فهو عنده حـق، وإن رآه الآخـرون بخلافه، لأن الإحساسات تختلفباختلاف الناس.
فلما جاء سقراط أنكر قولهم في المعرفة، وأثبت أن العلم إنما هو في المدركات العقلية، وأنالمعرفة تتكون من حقائق كلية، يستخلصـها العقـل لا الحـواس مـن الجزئيات المتغيرة، ولما كان العقلعنصًرا مشتركاً؛ لزم أن تكون الحقيقة عنـد شـخص معين هي نفسها الحقيقة عند شخص آخر، وهكذا.
ثانيًا: الفضيلة:
قال سقراط أن الفضيلة أمر بديهي في أساس تكوين الإنسان، لكن الإنسان حين يخطـيء معاينةالفضيلة يظن الباطل حقًا والشر فضيلة؛ لهذا فإن الحقيقة التي يراها سقراط أنه على الناس إعادةفحص ما هم متيقنون من معرفته.
وذهب سـقراط إلـى الربط بين الفضيلة والمعرفة، فالإنسان الذي يرغب أن يكون فاضلًا فلا بـدأن يكـون عارفًا، وبمقدار ما يتحصل المرء من المعرفة؛ معرفة عن نفسه وما تشتمل عليـه مـن مَلَكاتوقوى، ومعرفة عن الكون؛ بمقدار ما يكون المرء فاضلًا.
وذلك لأن معرفة الخير ستدفع إلى فعله، ومعرفة الشر تحض المرء على تركه، والإنسان يبتعدعن فعل الخير ويسـلك الشر لأنه جاهل بالخير والشر.
ويرى سقراط أن الإنسان روح وعقل يُسيِّر الجسم ويدبره، ولـيس مركبـًا مـن الهوى والشهوة كماذهب السوفسطائيون، وذهب إلى أن القوانين العادلة لا مصدر لها إلا العقل، وهي متفقة مع القوانينغير المكتوبة التي رسمتها الآلهة في قلوب البشر، فمـن يحترم القوانين العادلة إنما هو في الواقعيحترم العقل والنظام الإلهي.
بحثه في ما وراء الطبيعة:
بحث سقراط فيما وراء الطبيعة، فذهب إلى أن النفس ليست مجرد مبدأ الحيـاة، بل هي أهممن ذلك، هي” الذات الأخلاقية”، وقال بخلود النفس، وأقام الأدلة على وجـود الإله، وهو في نظره إلهخير لا يدركه العقل، ولا يحيط به الوصف، ولا يصـدر عنه إلا كل صلاح، ولا يشبه الحوادث في قولأو فعل، وأنه واحد لا يتغير ولا يتبدل، والواجب على الإنسان أن يطيع أوامره مهما كلفه من مشقةوتعب.
وكان سقراط يتحدث كثيرًا عن “الإله ”المفرد أو عن الألوهية، مخالفًا ما يتحـدث به الآخرونبلفظالجمع” الآلهة”، وكان ينهى عن عبادة الأصنام، وشدد في نهيـه علـى الملك، وقال له: ( إن عبادةالأصنام نافعة للملك ضارة لسقراط، لأن الملك يصلح بها رعيته ويستخرج بها خراجه، وسقراط يعلمأنها لا تضره، ولا تنفعه، إذا كان مُقرًّا بأن له خالقًا يرزقه، وجازيه بما قدم من سيئ أو حسن ).
منهجه في البحث والتفكير:
ابتدع سقراط منهجًا جديدًا في التفكير والمحاورة يقوم على أمرين:
-1 التهكم: بناه على تصنُّع الجهـل، والتظـاهر بالتسـليم لوجهـة نظـر الخصوم، ثم الانتقال إلى إثارة الشكوك حولها، ثم يستخلص من آراء الخصوم لوازم لا يستطيعون الالتزام بها، لكونها متناقضة معآرائهم ومعتقداتهم، وبذلك يوقعهم فـي الحرج والتناقض، وكان قصد سقراط من هذا تنقية أذهان النـاسمـن المعلومـات الفاسدة، وتطهيرها من القضايا الكاذبة والمعارف الخاطئـة التـي ورثوهـا عـن السوفسطائيين.
-2التولد: أي تولد الحقيقة من نفوس الخصوم، من خلال استنباطها عن طريق توجيـه الأسئلة إليهمفي نسق منطقي وترتيب فكري، ولم يكن حـواره ينتهـي إلـى نتيجـة معينة، وإنما كان القصد منه تنبيهالأذهان إلى ضرورة التزام الدقة في اختيـار الألفـاظ، وإلى أن المعاني موجودة في النفس، ولا سبيل إلىاستخراجها إلا بالحوار.
المرحلة الأهم …. أولًا: أفلاطون
وتعتبر المرحلة الثالثة في أهم مراحل تطور الفلسفة، في هذه المرحلة اتسع نطاق الفلسفة حيثصار موضوعها شاملاً لكـل بحـث إنساني، وامتاز هذا العصر بتبويب وتنظيم المسائل الفلسفية، وبلغتالفلسفة فيه كمالهـا، وكان ذلك على يدي أفلاطون وتلميذه أرسطو من عام427 إلى 322 ق.م.
وبعد موت أستاذه سقراط غادر أفلاطون أثينا إلى ميغاري، وأقـام بهـا عنـد الفيلسوف إقليدس، الذي أسس مدرسة فلسفية في هذه المدينة، ثم غادرها إلى مصر التي درس فيها الرياضةدراسة وافية، واطلع على علومها ودياناتها، وفـي سـنة 370 ق.م، غادر مصر إلى إيطاليا، وهناك تعرفعلى الفيثاغورثيين، واتصل بهم ودرس مذهبهم.
لقد جمع أفلاطون من خلال رحلاته وتنقلاته بين ثقافات الشرق والغرب الأمر الذي أسهم فيفلسفته التي جاءت متعددة الجوانب الفكرية ومتعددة الموضوعات، وممـا جعل فلسفته تمتاز عنفلسفة الذين سبقوه من اليونانيين؛ إذ تناول في فلسفته الطبيعة وما وراء الطبيعة، والإنسان والقيموالمثل والسياسة والمدنية … وغير ذلـك مـن موضـوعات فلسفية.
وفي سنة 378 ق.م رجع أفلاطون إلى أثينا، وبها أنشأ مدرسته الفلسفية، التـي كانت تطلعلى حديقة ”أكاديموس ”أحد أبطال اليونان، فسميت لذلك بالأكاديمية، وقـد جعلهـا دينية علميةتدرس فيها جميع العلوم وأقام فيها معبدًا، وظل يعلِّم فيها ويكتـب أربعـين سنة، وقد أقبل عليهاالطلاب رجال ونساء، يونان وأجانب، وظل فيها إلى أن توفي سنة 347 ق.م.
مؤلفات أفلاطون:
تمتازمؤلفاته بتمثيلها لمراحل حياته الفكرية الثلاث:
فالمجموعة الأولى من مؤلفاته هي التي كتبت في الفترة التي قضاها في أثينـا، والتـي أحاطتبموت أستاذه سقراط وقبل رحلاته خارج أثينا، وتمثل كتبه في تلك الفترة فلسـفة أستاذه سقراط.
أما المجموعة الثانيـة فقد كتبها بعد رحلته إلى ميغاري وغيرها من البلاد، وآراؤه فيها خليطمن آراء أستاذه سقراط وصديقه أقليدس الذي تعرَّف عليه في ميغـاري، وآرائـه الشخصية التي تمثلفلسفته وتفكيره الخاص.
وأما المجموعة الثالثة: فقد كتبها بعد استقراره في أثينا، ووصله إلى درجـة من النضج والصفاءالذهني، وتلك المجموعة من المؤلفات هي التي تعبر عن استقلاله في التفكير الفلسفي.
فلسفة أفلاطون:
شملت فلسفة أفلاطون موضوعات متعددة، وأهمها ما يلي:
1 ـ نظريته في المعرفة من حيث مراحلها وكيفية تحصيلها.
2 ـ نظريته في المثل، وهي بحث عن الحقيقة المطلقة فيما وراء الطبيعة.
3 ـ نظريته في الطبيعة، وموضوعها الطبيعة، وتبحث في ظواهر الوجود من حيث هـو مادة يلازمهاملازمة ضرورية كل من المكان والزمان.
4 ـ الأخلاق وتبحث في واجبات الفرد نحو غيره.
5 ـ السياسة وتبحث في واجبات الإنسان نحو المجتمع، وفيها وضع أفلاطون نظريته في الحكمالجمهوري، وفي المدينة الفاضلة، وهو ما يعرف بجمهورية أفلاطون.
وبهذا يتبين أن أفلاطون تناول في فلسفته موضوعات شتى، وأنـه تميـز عـن الفلاسفة قبله الذينكانوا يقصرون مباحثهم على موضوع واحداً أو موضوعين لقد شملت فلسفة أفلاطون الطبيعة، وما وراءالطبيعة، المعرفـة، والمثل والأخـلاق والسياسة والمدينة الفاضلة، والنفس الإنسانية.
منهجه الفلسفي:
سلك أفلاطون في منهجه الفلسفي التوفيق والتنسيق بين المذاهب الفلسفية التـي سبقته، إذ لمير في تعارضها سببًا للشك مثل السوفسطائيين، إن آراء السـابقين عنـده حقائق جزئية والحقيقة الكاملةتقوم بالجمع بينها وتنسيقها في كل يجمع الأجزاء ويؤلفها، وطريقة التوفيق هي حصر كل وجهة فيدائرة، وإخضاع المحسوس للمعقول، والحـادث للضروري.
إنه جمع بين تغير هرقليطس ووجود بارمنيـدس، ورياضـيات فيثـاغورث وأصحابه وعقيدتهم فيالنفس، وجواهر ديمقـريطس، وعناصـر أنبـادوقليس، وعقـل أنكساغوراس، ومذهب سقراط، أي إن أفلاطون لم يرد شيئًا من تفلسف السابقين، بل انتفع بكل شيء ثم طبع هذا التفلسف بطابعه الخاص و زاد فيه؛ فتوسع وتعمق إلىحد لم يُسبق إليه.
الله عند أفلاطون:
لقد قاد أفلاطون تفكيره إلى إدراك الألوهية والاعتراف بوجود إله لهذا الكون مـدبر لـه ومهيمن عليه، وحكى عنه تلامذته أنه كان يقول:إن للعالم محدثًامبدعًا، أزليًا واجبًا بذاته، عالم بجميع معلوماته على صفةالأسباب الكلية، كان في الأزل ولم يكن في الوجودرسم ولا طلل إلا مثالًا عند الباري تعالى.
والاعتقـاد في الألوهية واجـب علـى كـل إنسان،وهذا الاعتقاد ليس طارئًا ولا مكتسبًا، إنه مغروز فيطبيعة الـنفس الإنسـانية، فالإنسان طُبِع على التدين، والاعتقاد بوجود إله أمرمركوز في طبيعـة الإنسـان التـي خُلِقت مع فطرته التي فطره الله عليها.
ولذا؛ فإن معرفة الله واجبة، وعبادة الله وتعظيمـه فرض على كل إنسان، وربما يعبر عن وجود الله بالهيولي، وربما يعبر عنه بالعنصر!! قال : ( أبـدع البـاري العقـل الأول ، وبتوسطه النفس الكلية، وقد انبعث عنالعقل انبعاث الصورة في المـرآة، وبتوسـطهما [ توسط العقل والنفس ] أبدع العنصر، وليس المقصود بهذاالعنصر الهيولي التـي هـي موضوع الصور الحية إنما عنصر أخر.
ويثبت أفلاطون وجود الله تعالى بدليلين هما -1:دليل الحركة .2- دليل النظام
وهو يستمد هذين الدليلين من ظاهرتي الحركة الجارية في الوجـود والمتعاقبـة على كل موجوداته،وظاهرة النظام البادي في كل جزء من أجزاء الوجود.
أما عن وصف أفلاطون للإله؛ فقد وصف الله بالوجود والوحدة، ثم أضاف إليه من الصفات مـا يجعلـه موجودًا منفردًا عن كل ما سواه، وبما استحق به أن يكون فوق قمـة الموجـودات، وأن يكون مدبِّرها وصانعها.
فمن صفات الله أنه روح عاقل منظم، متصف بالجمال والخير والعدل والكمـال والبساطة، ثابت لا يعتريه تغير،صادق لا يعرض له الكذب، لا يخضع للزمان، يكـون وحده في حاضر مستمر، يتجه إلى العالم بعنايته التي لاتقتصر على كلي دون جزئي أو جزئي دون كلي.
ثانيًاـ الطبيعة عند أفلاطون:
يفسر أفلاطون الكون على أساس نظريته في المثل وثنائية العالم؛ فالعالم كان في المبدأ مادة مبهمةغير معينة، ولا يعرف عنها غير صلاحيتها لتقبُّل الصور، وأن هـذه المادة تحركت أولًا حركة اتفاقية باستمرار حتىاتحدت ذراتها المتشابهة بالشكل وكوَّنت العناصر الأربعة، وبعد أن وصلت تلك المادة إلى هذا النظام عَيَّنالصـانع لكـل منهـا مكانًا .
ولا يقصد أفلاطون بالحركة الاتفاقية ما قصده الطبيعيون من القول بالصدفة والاتفاق، بل قصد أنالصانع المبدع المدبر وضع الروح فوق المادة فأَلّفت الانسجام والنظام الحاصل بين الأشياء، والكمالالموجود بين الكائنات نظمته قوة عاقلة هي التي تسير العالم إلـى غاية، ويبدو من كلام أفلاطون أن العالممكوَّن محدث، مما جعل أرسطو يعتبره مخالفًا للفلاسفة الأقدمين.
ثالثًا ـ المثلعندأفلاطون:
وصف أفلاطون العالم المعقول بأنه إلهي لاشتراكه مـع الإلـه فـي الروحيـة والعقـل، لكنـه يصنـف العالمالعقلي في مراتب مختلفة أعلاها وفوق قمتهـا جميعـا الله عز وجل.
وكان كثيرًا ما يطلق اسم الإله أو الإلهي على بعض المثل :كمثال الخير ومثال الجمال، وآلهةالكواكب، وآلهة الجن!!! وكل ما عدا الله من مجردات هي مبادئ للتـدبير آلهة باشتراك الاسم فقط، لأن كلواحد منهم يمثل قمة نوع أو مقولة، ولا يأخذون كـل خصائص الله، وإنما يستمدون منه وحدة وجودهموخلودهم.
ويرى أفلاطون أن المعاني الكلية المجردة لها وجود وتحقق ذاتـي فيمـا وراء الطبيعة، وهذه المعاني أوالجواهر المجردة لا تدركها الحواس ولا يطرأ عليهـا الفسـاد والفناء، ووجودها هو موضوع العلم اليقيني، ولولاوجود هذه الجواهر ما استفدنا العلم، وما استطعنا العلم بشيء علمًا يقينيًا، إنها العلم المعقول الذي هو أصلالعالم المحسـوس ومثالٌ له، فالكليات هي الموجود الحقيقي.
أما هذا الموجود المادي فليس إلا ظلًا وخيـالًا له، فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقةالعقل المطلق، وطبقة المادة الأولية أو الهيولي، والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي، وبينذلك كائنات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي. وهذهالكائنات المتوسطة، بعضها أرباب، وبعضها أنصـاف أرباب، وبعضـها نفوس بشرية. وقد ارتضى أفلاطون وجودتلك الأرباب المتوسطة، ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحدُّه الزمانوالمكان، ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولَّت الخلق، لتوسطها بين الإلهالقادر والهيولي العاجزة!!! فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين!!!
ومماسبق يتبين لنا أن أفلاطون يرى أن هناك عالمين اثنين:
العالم الأول: عالم الحس المشاهد، دائم التغير،عسير الإدراك، ليس جديرً ابـأن يسـمَّى موجودًا، و لا يسمَّى إدراكه علمًا،بل هو شبيه بالعلم ؛لأنه ظل و خيال للموجود الحقيقي .
العالم الثاني: عالم المجردات ، فيه أصول العالم الحسي و هو مثاله الذي صـيغت عليـه موجوداتهكلها؛ ففيعالم المثل يوجد لكل شيء مثال هو في الحقيقة الموجود الكامل لأنه مثال للنوع لا للجزء المتغير الناقص؛ ففي عالم المثل إنسانية الإنسان وحيوانية الحيوان، وخيرية الخير ، وشكلية الشكل …وهكذا.
ومثال ذلك: أنا إذا نظرنا في أفراد الإنسان الممثلة في إبراهيم وزيد وعلي؛ وجدنا كلًّا من هذه الأفرادجسمًا ناميًا ومتحركًا بإرادته، وهي ما نعبر عنه بقولنـا: حيـوان، ووجدناها تشترك أيضًا في التفكير بالقوة المعبرةعنه بـ ”النطق”، وبجوار هذه الصـفات الجوهرية المشتركة بين جميع الأفراد توجد صفات عارضة؛ كالنوموالمرض والمشـي، فنستبعد الصفات العارضة ونبقي الصفات الجوهرية، مرتِّبين إياها في جـنس وفصـل، فيصبحالتعريف حينئذ تعريفًا بالحد التام، حيث يكون تعريف الإنسان “حيـوان نـاطق”، وكل من الحيوان والناطق مُدرَكعقلي منتزع من أفراد الإنسان الحسية بعد تجريده من المادة، فهو صورة عقلية مجردة عن المادة.
وهذه الصورة العقلية المجردة لها حقيقة خارجية مجردة عن المادة، لهـا كيـان خارجي مستقل بحيثتكون تلك الصورة مرآة لها ومنطبعة عليها، هذه الحقيقة الخارجية المجردة التي تنطبق عليها الصورة العقليةالكلية هـي مـا يسـميها أفلاطـون“مثـال الإنسان”.
فمثال الإنسان: هو تلك الحقيقة المجردة الكائنة في العالم المعقول وهو عالم المثل، نظر إليه الصانعوصنع على شكله أشخاص الإنسان المحسوسة، وبين العـالم الحسي وعالم المثل يوجد العقل الإنساني، الذيتتحقق فيه معرفة حالة من حـالات تلـك المعاني الكلية والجواهر المجردة.
وعلى هذا ؛ فإن الأشياء لها ثلاث وجودات:
الأول: أعلاها وجود المجردات في عالم المثل.
الثاني: أوسطها وجودها الذهني غير الخارجي، و بواسطتها يمكن الحكم على المحسوسات و معرفة المجردات في عالم المثل.
الثالث: أدناها و أحطها و هو وجودها المشاهد في عالم الحس.
المرحله الاهم … ثانياً أرسطو
ولد ارسطو عام 384 قبل الميلاد في مدينة (ستاغيرا) في شمال اليونان، وكان والده طبيبا مقربا من البلاط المقدوني، وقد حافظ ارسطو وتلاميذه من بعده على هذا التقارب. وقد كان لوالده ثأير كبير عليه لدخوله مجال التشريح ودراسة الكائنات الحية التي منحته القدرة على دقة الملاحظة والتحليل. وفي عام 367 رحل ارسطو إلى اثينا للالتحاق بمعهد افلاطون، كطالب في البداية، وكمدرس فيما بعد. وكان افلاطون قد جمع حوله مجموعة من الرجال المتفوقين في مختلف المجالات العلمية من طب وبيولوجيا ورياضيات وفلك. ولم يكن يجمع بينهم رابط عقائدي سوى رغبتهم في إثرا وتنظيم المعارف الإنسانية، وإقامتها على قواعد نظرية راسخة، ثم نشرها في مختلف الاتجاهات، وكان هذا هو التوجه المعلن لتعاليم وأعمال ارسطو.
وجودالله عند أرسطو:
اعتمد أرسطو على الحركة في إثبات وجود الله فقال: ( إن كل متحرك لا بد له من مُحرِّك، وهذاالمحرك لا يمكن أن يحتاج إلى محرك آخر يستمد حركته من غيـره، وإلا لتسلسل الأمر إلى غير نهاية؛ فلا بدمن أن ينتهي الأمر إلى محرك أولي أزلي يُحرِّك ولا يتحرك، أو يفعل في غيره ولا ينفعل بغيره، وإلا لَمَا كانأولًا، وذلك المحرك الأول هو الله ).
فالله عند أرسطو هو العلَّة الأولى، أو المحركالأول؛ يقول: ( فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولا بد للمحرك من محرك آخـر متقدم عليه … وهكذا،حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محـرك لايتحـرك، لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلىغير نهاية.
ثانيًا ـ قدم العالم:
إن القـول فـي قـدم العـالم وأزليـة الحركـات بعـد إثبـات الصانع والقول بالعلَّة الأولى إنما شهر بعد أرسطولأنه خالف القدماء صريحًا، وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهانًا، فنسج على منواله من كان منتلامذتـه وصـرحوا القـول فيـه مثـل: ( الإسكندر الأفروديسي، وثامسطيوس، وفورفوريوس ).
يقول أرسطو: ( وهذا المحرك الذي لا يتحرك لا بد أن يكون سرمدًا، لا أول له ولا آخر، وأن يكونكاملًا منزهًا عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مسـتغنيًا بوجوده عن كل موجود.
وهذا المحرك سابق للعالم في وجوده، سبق العلـة لا سـبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها فيالعقل، ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني؛ لأن الزمان حركة العالم فهو لا يسبقه، أو كما قال: ( لا يُخلَقالعالم في زمان ).
وعلى هذا، يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارن اليقين، إلا أنه يقرر فـي كتاب”الجدل”: ( أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان ).
براهينه في قدم العالم:
إن إحداث العالم يستلزم تغييرًا في إرادة الله، والله منزه عن الغير؛ فهـو إذا أحدث العالم فإنّما يحدثهليبق الله جل جلاله كما كان، أو يحدثه لما هو أفضـل، أو يحدثه لما هو مفضول.
وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حـق الله؛ فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان،فذلك عبث والله منزه عن العبـث، وإذا أحدثـه ليصبح أفضل مما كان؛ فلا محل للزيادة على كماله، وإذا أحدثه ليصـبح مفضـولًا؛ فذلك نقص يتنزب عنه الكمال !
ويضيف أرسطو: ( وإذا كانت إرادة قديمة لا تتغير؛ فوجود العالم ينبغي أن يكون قديمًا كإرادة الله؛ لأن إرادة الله هي علة وجود العالم، وليست العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها؛ فلا موجب إذًا لتأخر المعلولعن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب غيره.
فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئًا ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسـيلة أو لعارض طارئ أو لعدول عنالإرادة، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى!! ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق