علـم الاجتمـاع الدينـي عند فيبـر:

كما أشرنا سابقا في معرض الحديث عن المجالات التي اشتغل فيها ماكس فيبر، التي من أبرزها "علم الاجتماع" الذي أعطى فيه الكثير، ولم يحترفه كمهنة إلا  قبيل وفاته بعامين فقط، مخلفا وراءه إرثا مشهودا له به في هذا المجال، إلا أننا سنخصص اهتمامنا بحصره في علم الاجتماع الديني.

قاد ماكس فيبر مجموعة من الدراسات يمكن أن تدخل تحت علم الاجتماع الديني، لعل من أهمها تلك الدراسة التي حاول فيها أن يناهض الفكر الماركسي في أساسه وجوهره، والتي سبقت الإشارة إليه تحت عنوان " الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية".

ثم قام فيبر بعد ذلك بدراسة مقارنة تناولت الأديان الكبرى والعلاقة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، من جهة والاتجاهات الدينية من جهة أخرى. وعن الدور الذي يلعبه من خلال دراسات فيبر، فإن ريمون آرون يقول: " إن نقطة الانطلاق في دراسات فيبر علم الاجتماع الديني هما في اعتقاده بأن فهم أي اتجاه يحتاج من الباحث إلى إدراك تصور الفاعل الموجود بأكمله". إذ في ضوء هذا الاعتقاد حدد فيبر التساؤل التالي لكي يجيب عنه في دراسته: إلى أي مدى تؤثر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي لكافة المجتمعات؟ ويقول1970 (Arno) إن ماكس فيبر في دراسته لتأثير الأخلاق البروتستانتية على الرأسمالية ، كان يريد أن يؤكد قضيتين هما:

     * أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود ، وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى هذه التصورات للعالم، والتي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي.

    * إن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات السلوك الاقتصادي ومن ثم فهي تعد من أسباب تغير هذا السلوك.

ففيبر إذن، لم يعالج الجوانب المختلفة للدين بوصفه ظاهرة اجتماعية، بل اكتفى بالدراسة الأخلاقية الاقتصادية للدين، ويقصد منها ما يؤكد عليه الدين من قيم اقتصادية.

·      مؤلـف "الأخلاق البروتستانتيـة والروح الرأسماليـة" من أهم الأعمال عند فيبر:

كما هو معروف أن رائد علم الاجتماع ماكس فيبر، ألف أعمالا كثيرة،  نذكر منها: العلم كمهنة، السياسة كمهنة، الاقتصاد العام... وفي مجالات عدة، الاقتصاد، السياسة، القانون... ولكن أبرز هذه الأعمال وأكثرها تأثيرا في الفكر الاجتماعي، كان كتاب " الأخلاق البروتستانتية الذي سبقت الإشارة إليه. وبحسب المؤرخين، فإن هذا المؤلف كان قراءة لدور القيم الدينية في ظهور قيم وأخلاق العمل في المجتمعات الصناعية الجديدة، والتي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي.

وتأتي أهمية دراسات وأطروحات فيبر، من اهتمام منقطع النظير بفلسفة العلوم الاجتماعية ومناهجها. وفي هذا الخصوص استطاع العالم تطوير المفاهيم والجوانب التي أصبحت بعد وفاته ركائز علم الاجتماع الحديث، ومن أهم المصطلحات التي أثرى بها علم الاجتماع، وتعتبر جزءا منها ومرجعا كبيرا للمهتمين بهذا العلم الإنساني، هي " العقلانية" و" الكاريزما" و" الفهم" و" أخلاق العمل".

·      من بين المؤلفين الذين اهتموا في مؤلفاتهم بتحليل مؤلف ماكس فيبر:

يعد مؤلف الأخلاق البروتستانتية، من أشهر مؤلفات السوسيولوجيا الدينية عند ماكس فيبر. لذا نجد عدد لا يستهان به من المؤلفين، أثاروا حوله مجموعة من المناقشات والاعتراضات والمجادلات.

ويعد جوليان فروند في كتابه "سوسيولوجيا ماكس فيبر" من بين هؤلاء المؤلفين الذين اهتموا بتحليل أفكار ومواقف "الأخلاق البروتستانتية" الذي يوضح فيه فيبر أنه لا ينبغي إعطاء العلاقة السببية بين الرأسمالية والبروتستانتية معنى علاقة آلية. فالذهنية البروتستانتية كانت أحد مصادر عقلنة الحياة التي أسهمت في تكوين ما يسميه" الروح الرأسمالية"، إذ لم تكن السبب الوحيد أو حتى الكافي للرأسمالية نفسها.

ونخلص من هذا، إلى أن موقف فيبر يتمثل في أن  البروتستانتية ليست سبب الرأسمالية، إنما أحد أسبابها، أو هي بالأحرى أحد أسباب بعض مظاهر الرأسمالية. وشرح لهذا ريمون آرون في كتابه"السوسيولوجيا الألمانية المعاصرة".

وننتقل إلى خلفية الأفكار التي أسهمت في تكوين الروح الرأسمالية، إذ يجد فيبر هذه الخلفية عند بعض الطبقات البروتستانتية الكالفينية (الهولندية خاصة) والتقوية والميثودية والمعمدانية، التي يتميز نهجها الحياتي بتقشف يمكن التدليل عليه بكلمة " التطهرية الغامضة".

وما يهم فيبر هي الحوافز النفسية النابعة من المعتقدات والممارسات الدينية التي أثرت على الواقع لتكوين " الروح الرأسمالية". وعليه فعندما يتكلم فيبر عن الكالفينية فهو يفكر فقط في الأخلاق الخاصة ببعض الأوساط الكالفينية لنهاية القرن 17م، لا بمذهب كالفن لذاته.

وما يمكن أن نخلص إليه من هذا النتاج الفيبري، وهو أن فيبر لم يحصر السوسيولوجيا الدينية في تفسير ضيق للظاهرة الدينية من أجلها بالذات، وإنما حاول أن يوضح كيف يوجه السلوك الديني بقية النشاطات الإنسانية. اقتصادية، سياسية، قانونية... وكيف يحدد مواقف ذو أصول دينية سلوكا أخلاقيا يطبق بدوره في الشؤون الدنيوية.

وسننتقل بعون الله إلى المؤلف الثاني، الذي اهتم  بدوره بـ " الأخلاق البروتستانتية"، الذي ذهب فيه فيبر إلى أن العقيدة البروتستانتية – وبخاصة الكالفينية - هيأت الظروف الاجتماعية والنفسية، التي أدت إلى ازدهار الرأسمالية، والذي أثار التحليل الذي قدمه فيبر فيه اهتمام الباحثين بدراسة العلاقة بين الدين والاقتصاد على نطاق واسع.

ويعد الكتاب "ميادين علم الاجتماع" من جملة الكتب التي تناولت الدور الذي يلعبه كل من الدين والقيم في عملية التنمية الاقتصادية.

لقد كان ماكس فيبر أظهر من ناقش العلاقة بين القيم الدينية والنشاط الاقتصادي، فأكد الأهمية البالغة للدين باعتباره عاملا مدعما للنشاط  الاقتصادي الرشيد ومشجعا. فقد أدت البروتستانتية بالإنسان إلى ممارسة سيطرة عقلية على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك على العكس من الديانات الشرقية الكبرى، وبخاصة الصينية القديمة والهندية، فهي لم تهيئ  للإنسان بيئة صالحة لتدعيم النشاط الاقتصادي، في حين لم يحاول فيبر أن ينظر إلى العلاقة بين الدين والاقتصاد باعتبارها علاقة متميزة، إلا أن تحليله يقابل تحليل كارل ماكس الذي نظر إلى المعتقدات الدينية على أنها عنصر في البناء الفوقي، وبالتالي تعتمد إلى حد بعيد على القوى الاقتصادية في المجتمع.

 ومن المؤلفين الذين اهتموا أيضا بعمل ماكس فيبر الشهير "الأخلاق البروتستانتية"، نجد دانيال هيرفيه في مؤلفه"سوسيولوجيا الدين" الذي ذهب فيه إلى أن دراسة فيبر عن "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"، قد غدت جدلا ثريا ونشيطا بدأ في حياة فيبر نفسه، إذ سعى بعض النقاد إلى إظهار أن وقائع مختلفة لا تتفق مع نظرية فيبر، وأنها لا تفسر بشكل تام، إذ أن المنطق الاقتصادي من حيث الأساس منطق معارض للأديان الأخلاقية، لأن عالم الاقتصاد الحديث عالم عقلاني ورأسمالي، بمنطقه الموضوعي الفردي والغريب عن الأخلاق الدينية المتعلقة بالإخاء لا يترك " العالم الوظيفي للرأسمالية" مكانا لدواعي أو متطلبات تصدقية إحسانية تجاه الأشخاص المحددين.

وفي المقابل ثمة نقاد آخرون لم يعترضوا على وجود بعض الصلات البروتستانتية وتطور الرأسمالية وذلك بافتراضهم لتفسيرات مختلفة لهذا التطور. واستدلوا على وجهة نظرهم بوجود العديد من الأمثلة المعاصرة التي تظهر الزهد والتقشف الدنيوي ذا الأصل الديني يمكن بالفعل أن يكون على صلة مع الروح العامة للمقاول صاحب المشروع الرأسمالي.

إلا أننا نجد كاترين كوليوثيلين قد أظهرت بشكل مقنع أن التعارض الكبير بين عالم الماضي الذي كانت فيه التمثيلات، وكذلك المؤسسات بواسطة الدين، وبين اليوم الذي تحرر من مثل هذا الاعتقاد. لا ينصف التحليلات الفيبرية التي تقاوم التفسيرات التي تستخدم المصطلحات الدنيوية، إذ أن الأديان الأخلاقية، حتى ولو كانت قد ساهمت في هذه العملية، لم يعد لها تأثير على الرأسمالية، كما أنها قد فقدت فعاليتها الاجتماعية.

فمن خلال هذا التحليل، يتضح على أن ماكس فيبر يؤكد على أن تطور وخصوصية التقشف البروتستانتي، قد تأثرا من ناحيتهم بكل الظروف الثقافية الاجتماعية، وخصوصا الظروف الاقتصادية.

خــاتمــــة:

في الختام نخلص إلى استنتاج مفاده، أن ماكس فيبر يعتبر أحد العمالقة العظام، والذي اكتشف ذلك النظام بين (الأخلاق) و(العمل)، وهو في ثلاثيته المعروفة في الكتاب، يضع يده على أحد أهم الأسرار في نهضة الغرب، فحيث انتشرت البروتستانتية انفجرت الرأسمالية. ويقول إن مثلث أو شرارة الانبعاث تكمن في: روح المبادرة، وتقديس العمل، واعتماد مبدأ الربح، وهي ثلاث قيم أنهكت الغرب مع تسلط الكثلكة، ولم يكن الغرب حسب وجهة نظره لينهض لو أن البابا والكنيسة الكاثوليكية بقيمتها المعاكسة، بقيت تمسك بتلابيب أوربا، من تقديس الزهد والفقر، والتواكل في عقيدة فاسدة لفهم العمل الإلهي والبشري، والنظر إلى الربح على أنه عمل غير صالح.

وما يمكن أن نخلص إليه من خلال دراستنا السطحية والمتواضعة جدا لهذا الكتاب، يمكن أن نجمله في ما يلي:

 أن ماكس فيبر من خلال مؤلفه هذا، حاول أن يوضح كيف يوجه السلوك الديني بقية النشاطات الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، ثم السياسية... وأن يبين أن دائرة انعكاسات المجال الديني متسعة جدا ولا تنحصر في إطار محدود، بل تكتسح كل الميادين، وقد خصص في كتابه هذا مجال الاقتصاد بالدراسة، القابل بدوره إلى التغير والتأثر بالمتغيرات والمؤثرات الدينية والثقافية في المجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...