حول اضطهاد المرأة

الأسرة هي الخلية الأساسية المكونة للمجتمع وتقوم بوظيفتين أساسيتين؛ وظيفة بيولوجية ووظيفة ثقافية: وتتمثل الوظيفة البيولوجية في إعادة إنتاج الجنس البشري، هذا في الوقت الذي تتجلى فيه الوظيفة الثقافية في تعليم الأبناء لأسلوب الحياة الذي تحدده الأطر الاجتماعية داخل المجتمع. ويعرف عالم الاجتماع البريطاني «أنتوني غيدنز» في كتابه «علم الاجتماع» التنشئة الاجتماعية بأنها “العملية التي يتعلم بها الأفراد والأعضاء الجدد في المجتمع أساليب الحياة في مجتمعهم”. غير أن أساليب الحياة ليست واحدة بالنسبة للجنسين معا؛ فالرجل سيد المجتمع المحتكر للمال والسلطة  وصاحب النفوذ في الفضاءات العامة، بينما أسلوب حياة المرأة يجعل منها  عبارة عن موضوع يتم تغييبه باستمرار دون أن يجسد لأي حضور من شأنه أن يساهم في تحقيق نوع من المساواة نظرا للهيمنة الذكورية المترسخة في الضمير الجمعي الذي يمارس سلطته القهرية على المرأة فيؤدي إلى تعثر محاولات نهوض المجتمع.

وتتلقى المرأة منذ صرختها الأولى تنشئة تحدد لها أدوارها الاجتماعية التي إذا لم تتشبع بها فتتمثلها تصورا، وتجسدها سلوكا، تؤدي إلى اعتبارها منحرفة عن النماذج الاجتماعية فيسلط عليها أحيانا العنف المادي لتقويم اعوجاجاتها وأحيانا أخرى العنف الرمزي ليفرض عليها التطابق مع الصورة النموذجية للمرأة في متخيل الحس المشترك. إن توافق المرأة الاجتماعي يتطلب خضوعا مستمرا وحده الكفيل بضمان انتزاع هويتها عن جدارة واستحقاق باعتبارها امرأة ونصف !

فما هي أشكال خضوع المرأة كزوجة؟ وهل يتوجب عليها، وبالضرورة، الخضوع للزوج كشرط يتوقف عليه أداء الأسرة لمهامها على أتم وجه؟ كيف تساهم الثقافة الشعبية والتمثلات الدينية الخاطئة في تشكيل هذا الوضع وتكريسه؟ وما هي انعكاساته على المرأة، الأسرة، والمجتمع؟ وهل العلاقة الزوجية؛ علاقة هيمنة أم تعاون؟ وكيف يمكن تأسيس علاقة زوجية تقوم على التفاهم والتعاون بدل الاحتواء والإقصاء؟

 

تعتبر المرأة كائنا إنسانيا من الدرجة الثانية تتوقف حياته على وجود الرجل «الإنسان العاقل والعامل»الذي تجتمع فيه صفات الكمال خلافا للمرأة التي تتجسد فيها صفات النقص؛ ويصبح لزاما عليها وفقا لهذا المنظور أن ترضي الرجل .ودور المرأة كزوجة يهيمن على تفكيرها ويعتبر شغلها الشاغل الوحيد والأوحد خشية «العنوسة» وهذا ما يعكسه لنا المثل القائل: “الهم هم العزبة، أما العزري يتزوج دابا”  ليعبر بذلك  تعبيرا صريحا عن كون العنوسة تعتبر وصمة عار على جبين الأنثى سواء اختارت هذا الوضع أو فرض عليها فهي مدانة في جميع الحالات. إن خضوع الزوجة للزوج يشكل رهانا مجتمعيا تجند لتحقيقه كل الإمكانات والمؤسسات؛ فالمرأة النموذجية هي تلك الزوجة الخاضعة لهيمنة الزوج، وتأخذ الهيمنة شكل قوامة ووصاية على المرأة في جوانبها المادية والرمزية؛ المتمثلة أساسا في تقييد الجسد وتنميطه ، حصر حركة الزوجة داخل الفضاءات المغلقة ومنع اختلاطها بالأجانب، تبعية الزوجة المادية للرجل، تعرض الزوجة بشكل يومي لعنف رمزي يأخذ شكل عنف لفظي جارح حاط بالكرامة الإنسانية… والواقع أن مختلف أشكال الاضطهاد الذي تتعرض له المرأة لها أساس اقتصادي، فإذا قارنا واقع مجتمعاتنا بالمجتمعات الغربية التي تحررت فيها المرأة، إلى حد ما، نجد مساهمة فعالة للمرأة في مؤسسة الأسرة إضافة إلى الفضاءات العمومية المختلفة التي تشهد حضورا قويا لهاته الأخيرة، كما يبدو ذلك -نوعا ما- إذا قارنا داخل مجتمعاتنا بين واقع المرأة التي أتيحت لها فرصة التعليم وواقع المرأة الأمية الفاقدة للمعرفة والسلطة والثروة والتي تتمتع بمكانة دونية داخل الأسرة خلافا للمرأة المتعلمة أو العاملة. وهذا لا يعني، طبعا، أن المرأة العاملة تسلم من ويلات العنف الرمزي حينا والمادي أحيانا أخرى في ظل استمرار الهيمنة الذكورية وكذلك بالنظر لقوة البنية الخفية التي تعيد إنتاج الواقع باستمرار. وإذا أمعنا النظر في الدراسات التاريخية سنجد أن خضوع الزوجة لزوجها ليس أمرا حتميا وطبيعيا فرضته طبيعتها الأنثوية بشكل مطلق وإنما لهذا الخضوع أساسه الاقتصادي المرتبط باحتكار الرجل للمال والسلطة وهيمنته على الفضاء العام الذي أقصيت منه المرأة في انقلاب تاريخي ظهرت فيه الملكية الخاصة؛ ليؤدي هذا الوضع الجديد إلى تكوين نظرة دونية تكرس واقع المرأة العورة وتساهم في طمس جوانبها الإبداعية الخلاقة.

ثمة من يدافع دفاعا شرسا عن أطروحة مفادها أن الأنثى مهيأة بيولوجيا لخدمة الرجل وأن أدوارها تقتصر بشكل أساسي على الإنجاب والتربية نظرا لنقص في صفاتها، لكن المعطيات التاريخية تدحض هذا الطرح ويتبين لنا في كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» الذي استند فيه « فريديرك إنجلز» إلى أبحاث الأنثروبولوجي «لويس مورغان» أن المرأة كانت متساوية الحقوق والواجبات مع الرجل في المشاعة البدائية، وخلال هذه الفترة انعدم الاضطهاد نظرا لسيادة الانتاج الاجتماعي للعمل بشكل جماعي لم يأخذ طابع استغلال طبقة لطبقة أخرى أو استغلال طرف لطرف آخر؛ وهذا يفسر بانعدام الأسس المادية التي سيؤدي بروزها في مرحلة لاحقة إلى ظهور علاقات اجتماعية تقوم على الإخضاع والاستغلال. لقد كانت المرأة تشارك إلى جانب الرجل في الإنتاج الاجتماعي الذي يضمن بقاء الجميع وبانتقال المجتمع من «اللاطبقية» إلى «الطبقية» بدأ اضطهاد المرأة؛ لقد أدى اكتشاف الزراعة وتدجين الماشية وظهور تقسيمات جديدة في العمل والتجارة، ووجود فائض للإنتاج إلى اغتناء البعض على حساب السواد الأعظم من الناس، وبحكم أن المرأة مهيأة بيولوجيا للإنجاب أصبحت ملكية خاصة للرجل إلى جانب أملاكه الأخرى كالماشية والعبيد؛ فأصبح تملك الرجال للنساء إحدى أسس النظام الجديد الذي ظهرت فيه العائلة «البطريركية»  فانقسم المجتمع إلى طبقات متناحرة لتظهر الدولة بمؤسساتها وإيديولوجيتها لتبرير هذا الاضطهاد ولشرعنة اللامساواة…و يتبين لنا من خلال التفسير المادي-الاقتصادي أن خضوع الزوجة للزوج ليس وضعا طبيعيا وأنه مرتبط بانقلاب تاريخي يبين لنا أن الخضوع لسلطة الرجل ليس شرطا يضمن استمرار مؤسسة الأسرة وتحقيقها لأغراضها التنشئوية. حيث أن الأسرة كانت في وضع سوي في مرحلة لم تكن فيها الزوجة خاضعة لسلطة زوجها بشكل مطلق. بل إن المجتمعات الأميسية كانت تحظى فيها المرأة بمكانة اعتبارية داخل المجتمع.

      مساهمة الثقافة الشعبية والتمثلات الدينية الخاطئة في تكريس النظرة الدونية للمرأة المتزوجة

تعتبر الحياة الفكرية للمجتمعات انعكاسا للأساس الاقتصادي، غير أن هذا الأساس تربطه علاقة جدلية بعالم الأفكار التي تملك من القوة والرسوخ ما يجعلها تتجسد كمواقف وأفعال على أرض الواقع؛ وللأفكار عدة تمظهرات تتجلى في الثقافة الشعبية، الثقافة العالمة، الدين، الإشهار، الإعلام… إلخ. وسنشير بإيجاز شديد إلى سلطة المثل على المرأة ومدى مساهمة رجال الدين، عبر سلطتم الرمزية باعتبارهم مالكين للمعنى كما هو شائع لدى الحس المشترك، في تكريس اضطهاد المرأة داخل الأسرة وإعادة إنتاج وبناء هذا الوضع باستمرار…

تعكس لنا الأمثلة الشعبية واقع المتخيل المغربي حول المرأة، هذا المتخيل الذي يتم تشكليه وبناؤه بواسطة الثقافة التي تعكس لنا التناقضات الذاتية والموضوعية الموجودة داخل المجتمع. وللمثل الشعبي حضور قوي في المعيش اليومي للمغاربة ويساهم في بلورة رؤيتهم للمرأة داخل مجتمع تبنى فيه عبر الثقافة وسلطة الرموز صورة المرأة الطيعة الخاضعة للأمر الواقع. ويعبر هذا المثل “الراجل ما يتعاب” عن حضور خارق للرجل،  بينما المرأة لا تمثل شيئا بدون رجل كامل الصفات والمواصفات، هذا في الوقت الذي ليس فيه أمام الأنثى خيارات كثيرة: الزواج أو الموت فلا حياة بدون زواج! فـ”البنت إما راجلها وإما قبرها” . وتتجلى الهيمنة الذكورية في مثل آخر ورد على شكل نصيحة تتوارثها الأجيال بقدر حرصها على توارث الأموال، يقول هذا المثل؛ “بنتك لا تعلمها حروف ولا تسكنها غروف” كتعبير عن خوف جمعي من تعليم المرأة مخافة أن  تتحول معرفتها إلى سلطة رمزية تخلخل السائد لتؤدي إلى اقتحامها الفضاءات العامة المهيمن عليها من طرف الرجل، لأن “المرا اللي تطوف ما تغزل صوف” و يشرعن هذا الاستغلال بزعم مفاده أن الأمر يتعلق بدفاع عن شرف المرأة ! وإذا كان إحساس المرأة بالدونية والنقص يلازمها منذ طفولتها فإن الزواج يعتبر تعويضا لها عن النقص وتحقيقا لكمال مفترض ولو كان مهينا جارحا إذ نجد في مثل آخر أن الرجل “كان مهني وشرى معزى، كان عزري وقام يتزوج” هذا الزواج الذي يجعل من المرأة سيدة المنزل النموذجية بغض النظر عن شكلها أو صفاتها لأن “المرا عمارة ولو تكون حمارة” ! وذلك، طبعا، شريطة الامتثال للمعايير الاجتماعية الصارمة.

بدورها تساهم التمثلاد الدينية الخاطئة في تكريس صورة سلبية عن المرأة يعاد تشكيلها ترتبط بالغواية والفجور والنقص والاعوجاج لذلك فهي لا تستقيم إلا بالضرب لتقويم اعوجاجاتها ويمثل الرجل حارس المرأة الأمين والحامي الوحيد لها.

هذا الوضع تنتج عنه آثار سلبية، وغاية في الخطورة، كالسوسة التي تنخر المجتمع برمته لأن سيكولوجية المرأة المضطهدة تختزل، في جانبها الذاتي، في تكوين المرأة لصورة سلبية ودونية عن نفسها… واعتبارا لاحتكاك الأم بالأبناء بشكل مستمر فإنها تنقل مشاعر النقص إلى نفسياتهم وهذا ما يؤدي اغترابهم و فشلهم في تحقيق التوافق الاجتماعي. إن الأسر التي تضطهد فيها المرأة معرضة للتفكك الأسري وما يقترن به من حرمان سيكوسوسيولوجي… فينتج عن هذا الوضع غير الطبيعي ارتفاع معدلات الطلاق، العنف الزوجي، والعنف الرمزي… دون إغفال نواتج هذا التفكك على الأبناء المعرضين للانحراف بمختلف أشكاله… إن الأسرة المغربية، حاضرا، تعيش واقعا مأزوما يتطلب القيام بدراسات سوسيولوجية لتشخيص وضعها نظرا لأثره العميق والخطير على المجتمع المغترب لأن الأسرة هي الخلية الأساسية داخل المجتمع التي تمده بأفراد وأعضاء غير متوازنين نفسيا ويتعذر عليهم تحقيق التوافق الاجتماعي الذي يتوقف عليه تطور المجتمع.

      علاقة هيمنة أم علاقة تعاون؟

إذا كان الزواج توافقا وتراضيا بين طرفين فإن أية علاقة زوجية تتناقض مع هذا المبدأ معرضة للانهيار، كما أن استمرارها، بما يتعارض مع هذا المبدأ،  يكون على حساب فعالية الأسرة والمجتمع… والتحرر من الصور النمطية السلبية حول المرأة من شأنه أن يؤسس لحياة نموذجية داخل مؤسسة الأسرة تقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات وهو مالا يمكن أن يتحقق إلا إذا تمت معالجة خضوع الزوجة للزوج: ماديا-اقتصاديا، ثقافيا، وسيكولوجيا… وهي عملية تتطلب تحرر المجتمع وبدون ذلك سنجد أنفسنا أمام أسر معطوبة ومجتمع يمشي مشية الأعرج ويحاول جاهدا النهوض ونصف قواه معطلة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...