تحليل لكتاب سوسيولوجيا الثقافة
الطاهر لبيب

يعرف الطاهر لبيب سوسيولوجيا الثقافة، على أنها تحليل للطبيعة العلاقة الموجودة بين أنماط الإنتاج الثقافي عموما ومعطيات البنية الاجتماعية وتحديد وظائف هذا الإنتاج داخل المجتمعات ذات التركيب التراتبي أو الطبقي.
1- متاهات الكلمة : 
يرى الطاهر لبيب أن مفهوم الثقافة الذي أصبح ضحية النجاح الذي حظي به، من المفاهيم التي تجمع جمعاً فريداً بين التداول والغموض والتلون، حتى صار الاتفاقُ على تعريف له بالمستحيل أشبهَ، في ظل وجود ما لا يقل عن 160 تعريفاً له، وفق إحصاء ببلغرافي لتعريفات مصطلح الثقافة أجراه الباحثان الأمريكيان كروبير وكلوكهون سنة 1952. فكم عساه يكون عدد التعريفات بعد ما يناهز ستة عقود؟ هنا يتبنى الكاتب وجهة نظر المفكر الفرنسي إدغار موران الذي يعتبر الثقافة أنها كلمة فخ، خاوية، منومة، ملغمة، خائنة. المخرج الذي اختاره الطاهر لبيب، إزاء هذه الصعوبة في هذا التحديد المفهومي، هو الرصد الكرنولوجي المقتضَب لتطور معنى الكلمة، حيث كانت تعني الطقوسَ الدينيةَ في القرون الوسطى، وفلاحةَ الأرض في القرن السابع عشر، والتكوينَ الفكري عموماً والتقدم الفكري للشخص خصوصاً وما يتطلبه ذلك من عمل وما ينتج عنه من تطبيقات في القرن الثامن عشر. ولم تَكتسب مضموناً جماعياً إلا مع انتقالها إلى ألمانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كمقابلٍ لكلمة حضارة التي كانت تطلق على الجانب المادي في حياة الأشخاص والمجتمعات، وموازاةً مع اعتبار درجات التقدم الفكري في هذا البلد معياراً أساسياً للتمييز بين مراحل تطور تاريخ البشرية.
2- مقابلة أولى - الثقافة والحضارة:
يعتبر الطاهر لبيب، صحيح بأن الاستعمال الفرنسي لكلمة الثقافة يشمل في آن معاً الأبعادَ الفكرية والماديةَ للتقدم، ولكن ما يميز التصور الألماني إجمالاً، هو طغيان النزعة إلى تمييز لا يعبَّر عنه دائماً بنفس الحدة في التأليف الألمانية بين الثقافة بمعناها الروحي والفكري والعلمي، وبين الحضارة بمعناها المادي، تمييزٍ يكاد يكون انعكاساً لما ألِفَتْه عبقريةُ هذا الفكر من فصل بين الروح والطبيعة. هنا يصَدِّر حديثَه عن المقابلة بين الثقافة والحضارة بأكثر المقابلات استعمالاً، مقابلةِ فيبر، مبتدِعِ صيغة "سوسيولوجية الثقافة"، بين الحضارة بما هي جملة المعارف المعترَفِ إنسانياً بصلاحيتها وإمكانيةِ نقْلها، وبين الثقافة باعتبارها جملة من العناصر الروحية والمشاعر والمُثلِ المشترَكة المرتبطة بمجموعة وزمن معينَيْن.
ثم ثنّى بثلاث مقابلات أخرى، تقْلِب أُولاها مقابلةَ فيبر، فتُحول الثقافةَ إلى جملة الوسائل المتحكِّمة في الوسط الطبيعي، وتَجعلُ الحضارةَ جملةَ الوسائل المحكَّمةِ في سيطرة الإنسان على ذاته وتطويرِ نفسه روحياً وفكرياً، وتؤطِّرُ ثانيتُها هذه العلاقةَ من منظور يعتبر الثقافةَ جزءً من حضارة أعم جغرافياً، حضارةٍ تضم جملةَ ثقافاتٍ تجمَعها روابطُ معينة، وتطغى على ثالثتها النزعةُ التطورية، فتَكُون الحضارةُ مرحلةً متقدمة تقدماً لا تتضمنه بالضرورة كلمةُ ثقافة. ثم تناول بالنقد العاملَ المشترَكَ لهذه المقابلات، والمتمثلَ في عزل المعرفة عن الواقع، استقلالاً بعالَم "أرقى" خاصٍّ بنخبة لها قيمُها وتصوراتٌ "عليا" تؤدي وظيفتين: الإيهامِ بحاجة الإنسان والإنسانية إلى هذه النخبة، والدفاعِ عن طبيعتها المتميزة التي لا يمكن التمكن منها إلا بجهد فكري خاص يتضمن تهميشاً بل عداءً لمعطيات الواقع المادي. ويبلُغ النقدُ أوجَه بالتنصيص على مماهاة هذه المقابلات بين عالم الثقافة وعالم السعادة، وما ينتج عن ذلك من انجذاب أصناف اجتماعية إلى هذا العالم انجذاباً يظل معه بعضُها في مستوى التّوْق المكبوت. والثقافةُ بهذا المعنى الجامع بين الضرورة والامتناعِ هي عمليةُ إثباتٍ لمكانة "المثقف"، للدور القيادي الذي يُسنِده أصحابُها إلى أنفسهم كموجهين للواقع، وعمليةُ إدماج أيديولوجية واجتماعية موازية للحاجيات.
3- المنعطف الانثروبولوجي:
في نظر الطاهر لبيب، لم تخِفَّ نسبياً حدةُ تمييزات هذه المقابلات إلا مع منتصف القرن التاسع عشر، حيث انتقلت اللفظتان ثقافة وحضارة من المفرد إلى الجمع، حين "تعرف" الاستعمار على ثقافات وحضارات أخرى لشعوب "مجهولة". وكان أول تعريف أنثربولوجي للثقافة هو ذاك الذي اقترحه الأنثربولوجي الإنجليزي إدوارد تايلورسنة 1871. وقد وَجه تعريفُه الوصفي ذو النفَس الدوركهايمي أعمالاً وتعريفات لاحقةً حافظت على توسيع الحقل الثقافي الذي يضم هذه المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما". وهو تعريف يتبطن أكثر من الحد الأدنى لخصائص الظاهرة الثقافية من وجهة أنثربولوجية، هي:
• الكلية الجامعة التي تترابط فيها المعطيات الفكرية والعاطفية والمادية.
• التشكل الذي يختلف قوة ومرونة حسب الحالات، والذي بدون حد أدنى منه يعسُر التمكنُ من الظاهرة الثقافية.
• التعلم الاكتسابي والاستيعاب الاجتماعي.
• المشاركة: المعيار الأساسي للظواهر الثقافية هي اشتراك مجموعة من الناس في الموقف منها.
ولم يحُلْ هذا الحد الأدنى من الاتفاق دون وجود تعاريف كثيرة صُنفت تصانيف مختلفة ومتنوعة تبعاً للاهتمامات والمنهجيات.
4- مقابلة ثانية - الطبيعة والثقافة:
يرى الطاهر لبيب، على الرغم من هذه الكثرة المختلفة المتنوعة، فإن المقابلة الأساسية التي حافظت عليها الأنثربولوجية هي المقابلة بين الطبيعي والثقافي، مدعومةً بالمقارنات بين الحيواني والإنساني، وبين ما هو بيولوجي أو فطري، وبين ما هو مكتسب في الوجود الاجتماعي. وفي هذه المقابلة اعتبار للإنسان كائناً وحيداً يخلق الثقافة. ثم إن هذا الاتفاق على الميزة الاكتسابية للثقافة ضمن الوسط الطبيعي والاجتماعي للإنسان خارج إطار غرائزه، لم يُغفِل بعضَ محاولات الربط بين الثقافة و"الطبيعة البشرية"، محاولات ظلت تَسِمُ الأنثربولوجيا حتى ليفي ستراوس الذي حررها من هذا القيد، بنفيه وجودَ إنسان طبيعي، فلا ثقافة عنده إلا بعد تجاوز الطبيعة عبر المرور من الطبيعة إلى الثقافة بوسائل كثيرة ومتنوعة، أهمها اللغة كوسيلة اتصال، وأبرزها اعتناق مبدأ تحريم الزواج بذات القربى. إن القرابة مثلاً لا تكتسب طابعَها كظاهرة اجتماعية بفضل ما يجب أن تحافظ عليه من الطبيعة، بل بفضل السيرورة الأساسية التي بها تنفصل عن الطبيعة. وأوضح مثال بنيوي لهذا المرور من الطبيعة إلى الثقافة -وإن كان جزءً من أمثلة لقيت اعتراضات كثيرة حتى من ذووي نفس الاختصاص- مثالُ المثلث الطبخي الستراوسي، كنموذج ينتقل فيه النيِّئُ إما "ثقافياً" إلى مطبوخ، وإما "طبيعياً" إلى متعفن. فعملية الطبخ تمثل نشاطاً وسطياً بين الطبيعي والثقافي.
5- محاولات التجاوز:
يعتبر الطاهر لبيب أن حافظت الأنثربولوجيا الثقافية حافظت على "إحالة" البعد الطبيعي بيولوجياً كان أو بسيكولوجياً فطرياً إلى دراسات خاصة كمادة مستقلة، وإن كانت بعضُ المبادرات قد اغتنمت في العشرين سنة الأخيرة فكرةَ تكامل الاختصاصات لإحداث القطيعة الكلاسيكية بين الإنسان والطبيعة. ففي بداية القرن العشرين، ميز كرويير بين ثلاثة ميادين حسب درجة تعقدها :
1) ميدان "اللاعضوي": موضوع الدراسات الكيماوية والفيزيائية.
2) ميدان "العضوي": موضوع الدراسات البيولوجية والبسيكولوجية.
3) ميدان "ما فوق العضوي": موضوع العلوم الاجتماعية. وهو الوحيد الخاص بالإنسان كمبدع للثقافة وحامل للتاريخ.
إذا كان من المفروغ منه، من وجهة نظر المفكر الفرنسي إدغار موران، أن الإنسان ليس مكوَّناً من شقين متراكبين، أحدهما بيو – طبيعي، والآخر بسيكو اجتماعي، وأن كل إنسان هو كلية بيولوجية بسيكولوجية سوسيولوجية، فإن مفهوم "الإنسان النوعي" المرتبط بمفهوم الكلية عند ماركس الشاب، قد أبرز، قبل بلورة مفهوم الطبقة الاجتماعية، عضويةَ الارتباط بين الإنسان والطبيعة بشكل خال من اللبس. فالإنسان هو الموضوع المباشر لعلوم الطبيعة، والطبيعة هي أيضاً الموضوع المباشر لعلم الانسان. إن الواقع الاجتماعي للطبيعة، والعلم الطبيعي البشري،. هي عبارات متطابقة. لقد صار نقد الأنثربولوجيا موقفاً كلاسيكياً. ولكن لا يجوز، اتكاءً على انتقادها، الذهابُ رأساً إلى نفي متسرع وغير علمي لمساهمتها، ولا الخلط بين نقد الهيمنة الاستعمارية كمرحلة تاريخية وبين الفكر الذي أنتجته هذه الهيمنة إلى درجة تقرير أنها علم كان يجب ألا يكون. التعاطي السليم مع الأنثربولوجيا ينبغي أن يتم وفق طرق نقدية معينة، وباستحضار تطور هذا العلم حسب معطيات واعتبارات جديدة، مع إبقاء المجال مفتوحاً على إمكانية –وربما ضرورة- الرجوع أحياناً رجوعاً استعمالياً على الأقل إلى الدراسات الأنثربولوجية.
وهذا لا ينفي وجودَ تمايز بين الأنثربولوجيا وسوسيولوجية الثقافة. وعلى رأس معايير هذا التمايز: طبيعةُ المجتمعات التي التي اهمتمت بها كل منهما. ففي حين اهتمت سوسيولوجية الثقافة بالظواهر الثقافية في المجتمعات ذات التركيب الطبقي، لم يكن ميدان الأنثربولوجيا غير المجتمعات الموصوفة بالبدائية. المشكلة على هذا الصعيد هي مشكلة التحويل المفهومي والمنهجي من حقل إلى آخر مختلف، ثم مشكلة الانتقال من مفهوم موسَّع شامل للثقافة إلى مفهوم تصنيفي حسب معطيات التركيب الاجتماعي الموجود، ثم مشكلة التباين المنهجي، والتي تتمثل في وجود كثير من الأعمال غير الماركسية، من تلك التي تصنَّف بسوسيولوجية المعرفة، على اعتبار أن اعتماد المنهجية الماركسية مكن الأعمال المعروفة في سوسيولوجية الثقافة من تحقيق مشروع الربط بين أنماط الإنتاج الفكري ومعطيات الواقع الاجتماعي الاقتصادي بطريقة فريدة وعميقة.
6- حدود مساهمة سوسيولوجية المعرفة:
يرى الطاهر لبيب أن طبيعة العلاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية، والتي يرجع فضل التنبه إلى وجودها لأغلب الذين ساهموا بسوسيولوجية المعرفة، ظلت سطحية على مستوى التحليل، أو غامضة على صعيد الاعتبارات الفلسفية التقييمية المرتبطة بموقف دغاعي عن الحضارة الغربية والنظام الرأسمالي.
فماكس فيبر مثلا، ظلت دراساته التاريخية تجمع بين تطور الديانات في شقها الروحي أساساً، وبين المعطيات الاقتصادية الاجتماعية، ذاهباً في هذا الجمع إلى درجة تفسير النظام الاقتصادي بعوامل روحانية أساساً، تفسيرٍ بقي أقرب إلى المثالية، وأفضى علمياًَ إلى أولية الفكر بالنسبة للمادة من جهة، وظل من جهة ثانية حبيس اعتبارات غير ثلبتة علمياً، من قبيل تقرير خصوصية للعالم الغربي تتمثل في "عقلنة" فريدة من نوعها يتميز بها عن العالم الشرقي، وهي نتاج خصائص وراثية بيولوجية جعلتها ممكنة.
أما إميل دوركهايم، وعلى الرغم من تنبهه إلى العلاقة الوثيقة في كل فترة بين الأفكار المجردة لفكرتي الزمان والمكان بالبنية الاجتماعية المناسبة، فإنه لا يلبث أن يسقط في "روحانية مفرطة"، معتبراً التصورات الجماعيةَ جوهراً للحياة الاجتماعية، والدينَ أقدمَ الظواهر الاجتماعية كعوامل توحيد بين الناس، عكساً للاقتصاد الذي يبقى خارج الضمير الجماعي.
وتظل أعمال كارل مانهايم إحدى المحاولات التي ألحت على الترابط الوظيفي بين المعرفة والأطر الاجتماعية. فهي تميز بين نوعين من نمط التفكير يرتبطان بمعطيات الوسط الاجتماعي: الأيديولوجيا أولاً بما هي جملة الأفكار المنسجمة مع الوجود والدافعة نحو المحافظة عليه، سواء كانت "خاصة" بالذاتية الفردية أو "شاملة" لجماعة تاريخية ملموسة. و"الطوباوية" ثانياً باعتبارها جملة الأفكار المعبرة عن تتوقات نحو المستقبل، والتي تحاول تغيير نظام موجود لا تنسجم وإياه. ولكن الأصناف الاجتماعية التي حددها مانهايم لهذه الطوباوية "مائعة" في أكثرها، كما أن الاعتبارات التقييمية حالت دون الربط التحليلي بين المعرفة والمعطيات الموضوعية للبنى الاجتماعية الاقتصادية، حيلولةً "مقصودة" في بعض الأعمال أوجبت على المثقفين "التحرر من الروابط الاجتماعية" لـ"يسبحوا بحرية" متعالية على آراء المجتمع المحدَّدَة مسبقاً.
وتأتي أخيراً تلك المساهمة التي خصصها غيرفيتش لسوسيولوجيا المعرفة، وإن اكتنفها الغموض المنافي للوضوح العلمي، وبقيت طموحاً نظرياً واسعاً ظل مجرد مشروع. غير أن إضافته النوعية تمثلت في إدخال اعتبارات منهجية أساسية على تعريف هذا الحقل. فسوسيولوجية المعرفة عنده هي دراسة الترابطات الوظيفية التي يمكن إيجادها أولاً في تراتب مختلف أنواع المعرفة (سبعة أصناف) وأشكالها (خمس حالات من التقابل) وأنظمتها الداخلية (التوازي بين بعض الأنواع وبعض الأشكال)، وثانياً في العلاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية بما هي عناصر ميكرو اجتماعية.
7- عناصر لتعريف سوسيولوجية الثقافة:
يقدم الطاهر لبيب، هنا تعريفاً "مقتضَباً لسوسيولوجية الثقافة مصدَّراً بعبارة "إيجازاً"، والتي تُلخص تبريرَه الاضطرارَ إلى تهميش بعض التيارات أو الأعمال ذات الصلة عند اعتماد معايير معينة لتحديد عناصر لتعريف سوسيولوجية الثقافة. يقول التعريف: تحليل طبيعة العلاقة الموجودة بين أنماط الانتاج الفكري ومعطيات البنية الاجتماعية وتحديد وظائف هذا الإنتاج في المجتمعات ذات التركيب التنضيدي أو الطبقي. وهو تعريف يتضمن أربعة اعتبارات:
1) عبارة "أنماط الإنتاج الفكري" واضحة الدلالة على وجود أنماط مختلفة من الثقافة قد تتناقض مضموناً ووظيفةً في المجتمع الواحد أولاً، وعلى الانعدام العملي للتجانس الثقافي بالمعنييْن الفلسفي والأنثروبولوجي ثانياً. فلا توجود موضوعياً في المجتمعات ذات التركيب الطبقي "ثقافةٌ للجميع". معنى هذا أن سوسيولوجية الثقافة هي في نهاية الأمر سوسيولوجية تَبايُنٍ في الثقافة وعدمِ مساواة في المجال الثقافي.
2) الاكتفاء بالحديث عن المجتمعات المنضدة أو الطبقية هو على سبيل المثال لا الحصر. هو تأكيد من التعريف على تعبير الإنتاج الفكري عن مرحلة تمايز بين الأصناف الاجتماعية والاقتصادية. وعليه، فإن المجتمعات "البدائية" التي قصُرَت فيها أنماط الإنتاج الفكري عن بلوغ درجة كافية من التمايز تسمح بتصنيف ما، هي المجتمعات الوحيدة المستبعَدة من الحقل السوسيولوجي. الأمر الذي يفسر الصعوبة التي واجهت المشتغلين على هذا النوع من المجتمعات إبستمولوجياً ومنهجياً.
3) إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي غيرُ ذي بال من وجهة نظر تحليلية. المهم هو تحليل أشكال هذه العلاقة في مرحلة معينة لمجتمع معين، تحليلاً أغنى المناقشات المتعلقة بالروابط الموجودة بين البنيتين التحتية والفوقية، مناقشات رسّخَت فكرةَ التبادل الديالكتيكي القائم بينهما، ومكنَت في آن واحد، بفضل المساهمة المتطورة لسوسيولوجية الأدب والفن في هذا الإطار، من تجاوز التصور الميكانيكي والمثالية و"الاقتصادوية"، فلم يعد مثلاً من معنى للتسليم بمبدأ "الانعكاس" المعتمَد لدى الطريقة الكلاسيكية المعهودة، والباحثة باستمرار عن علاقة مباشرة بين "مضمون" النص والواقع.
4) إبراز الوظيفة الاجتماعية السياسية التي يحوِّل لأجلها إنتاجٌ فكري معطياتِ الواقع، أهمُّ من مجرد تحديد الكيفية التحويلية ذاتها. فالأدوار التي يؤديها مثقفون لصالح أصناف أو طبقات معينة، عن وعي أو عن غير وعي لا فرق، هي من جهةٍ وظيفةٌ أساسية، وبُعدٌ من أبعاد العلاقة يستحيل تفسيرُ ظهور حدث فكري بدونها، وهي من جهة ثانية تحُل سوسيولوجياً مسألة "استقلالية" القيم الفكرية الجمالية، باكتشاف وظيفةٍ لاستمرارية هذه القيم أو لبعثها في ظروف تاريخية محددة.
خلاصة :
نخلص مما سبق، إلى أن الطاهر لبيب قد أبرز نوعية المساهمة السوسيولوجية في الميدان الثقافي بالنسبة لمراحل أنثروبولوجية وسوسيو معرفية سابقة، وخصوصاً في محورة إشكالية الكتاب حول اعتبار منهجي أساسي هو: لا تفسر الظواهر الثقافية أو الأيديولوجية بصفة عامة إلا في إطار علاقتها بالمعطيات الموضوعية لصيرورة المجتمعات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...