ماهو مفهوم المقدس؟


يتسع مفهوم المقدس للعديد من المعاني، وتتنوع تعريفاته بنحو يعسرالامساك بمفهوم
واحد له، ذلك ان مثل هذا المفهوم يدخل في شبكة واسعة من المفاهيم، ويتغلغل
في نظام معقد من المراجع والاحالات المكونة من احكام قيمية. فقد يعرف
المقدس بأنه في مقابل الدنيوي، أو يعرف بأنه مقابل المدنس، ويعرف المقدس
بأنه كل شيء متعال، أوهو ما يحن وينجذب اليه الانسان، وينشغل به الى أقصى
حد، ويعرف بأنه مايرتبط بالدين ورموزه وتعبيراته.
وقد يقال في تعريفه بأنه مقابل الطبيعي، أو اليومي، أو العادي، أو الممل،
أو الرجس، أو الخبيث، والعلاقة بين المقدس والدنيوي مرنة وحركية، فربما
يستوعب المقدس شيئا من فضاء الدنيوي، حين يتمدد في لحظة ما فيدمج مساحات
اخرى من الدنيوي اليه. هل المقدس يساوي الديني أو لايساويه، لاشك ان مجاله
مرتبط بما هو ديني في الكثير من نماذجه وحقوله، لكن أحياناً للمقدس مجال
خارج الدين بمفهومه المتداول والمتعارف، لأنه يرتبط أيضاً بطبيعة
المجتمعات وحدوده فيها، وان فضاء المقدس مفتوح وليس مغلقا، ومداراته غير
متناهية الأبعاد، فهي تتنوع بتنوع الثقافات والأزمنة، وتتعدد بتعدد
الجغرافيا البشرية، فكل شئ سواء كان انسانا، أو كائنا آخر، أو زمانا، أو
مكانا، يمكن ان يغدو مقدسا في اطار مشروطية معينة. في انثروبولوجيا الدين،
وسسيولوجيا الدين، وعلم نفس الدين، والهرمنيوطيقا؛ بوسعنا ان نتعرف على
تجليات المقدس وتعبيراته وطبقاته ونفوذه وعوالمه ومجالاته. المقدس ظاهرة
أبدية موجودة حيث وجدت الحياة البشرية، وإحدى البنى العميقة في الوعي
واللاوعي البشري، حتى المجتمعات شديدة العلمنة – اذا صح التعبير – لا يمكن
ان تغادر المقدس لأنه موجود في بنيتها العميقة، ونجد دائماً تعبيراته في
حياتها.



ففي المجتمعات الغربية، التي نظن بأن الدين اختفى من حياتها، الدين مازال
حاضرا لديها، لكن طبيعة حضوره في هذه المجتمعات مختلفة عنها في مجتمعات
اخرى. كنت قبل اشهر في مدينة اثينا، مما لفت نظري هناك، ان معظم الناس
الذين شاهدتهم في وسائل النقل العام، الشباب والشيوخ من
النساء والرجال كانوا يلبسون الصلبان، أو تبدو على ملابسهم رموز دينية،
معنى ذلك ان الدين ما زال مترسبا في البنية العميقة للمجتمع. صحيح ان
الدين لا يتجلى بوضوح في حياتهم الاجتماعية، أو المدنية، أو ينعكس على
الادارة والعلاقات والشأن العام بشكل مباشر، لكنه يدلل على انه مازال
لابثا في لاوعيهم ووعيهم، بمعنى ان الدين ليس غائباً ولم يندثر أو يختفي،
وان كان مجال حضوره لديهم غيره في الجزيرة العربية. الدين ظاهرة مستمرة
متواصلة، وحاجة بشرية لا يستغني عنها الانسان، غير ان تعبيراته وتجلياته
وتمثلاته وطبيعة حضوره مختلفة من مجتمع لآخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

keyboard_arrow_up

جميع الحقوق محفوظة © عرب سوسيو- طلبة علم الإجتماع القنيطرة -

close

أكتب كلمة البحث...