يكشف
لنا تاريخ العلوم الاجتماعية و الإنسانية أن ثمّة هناك مراحل و شروط كانت من وراء
التأسيس العلمي للسوسيولوجيا، من خلال تحديديه لموضوعه بدقّة و لمنهجه. إلاّ أنّ
هذا التأسيس سبقته إرهاصات في التفكير الاجتماعي ارتبطت عموما بالتفكير الفلسفي و
ما عرفه من نظريات و اتجاهات. لكن الاجتماع الإنساني لم يصبح موضوع تفكير علمي
إلاّ بعد فترات لاحقة، كانت بدايتها مع ابن خلدون الذي نبّه إلى وجود هذا العلم و
ساهم في تحديد موضوعه من خلال ما صرّح به باكتشافه لعلم مستقلّ أسماه بعلم العمران
البشري لم يتكلّم به السّابقون إذ قال: " و كأنّ هذا علمٌ مستقلٌّ بنفسه،
فإنّه ذو موضوع، و هو العمران البشري و الاجتماع الإنساني، و ذو مسائل، و هي بيان
ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى. و هذا شأن كلّ علم من
العلوم وضعياً كان أو عقلياً ". و قال أيضاً: "اعلم أنّ الكلام في هذا
الغرض مستحدث الصّنعة، غريب النّزعة، أعثرَ عليه البحثُ، و أدّى إليه الغوص .... و
لَعَمري لم أقف على الكلام في منحاه أحدٌ من الخليقة، ما أدري هل ألِغفلتهم عن ذلك
وليس الظنّ بهم، أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض و استوفوه ولم يصل إلينا."ص
33. كما أنّه لم يكتفِ بذلك بل دعا إلى استكمال النظر في هذا العلم و إتمام ما نقص
منه و ذلك في قوله:" و لعلّ من يأتي بعدنا ممّن يؤيّده الله بفكر صحيح و علم
مبين، يغوص في مسائله على أكثر ممّا كتبنا". لكن ابن خلدون على الرّغم من
استشرافه لهذا العلم و أسبقيته إلى التفكير في خفاياه، لم يؤسّس معه جيلا خلدونيا
يخلفه ويطوّر ما بدأه و يتمّم ما أسّسه.".
إلى
أن جاءت لحظة التأسيس لهويّة هذا العلم، حصلت في بيئة غير بيئة ابن خلدون، كانت
بدايتها مع نشأة العلم الحديث في أوروبا، و هي نشأة ارتبطت بظروف التحوّل
الاقتصادي و الاجتماعي و السّياسي و الفكري التي عرفها المجتمع الأوروبي. و يمكن
القول أنّ تأسيس علم الاجتماع بكافّة اتّجاهاته و نظرياته جاءت استجابة للتطوّرات
التي عرفها المجتمع الأوروبي، التي ابتدأت منذ عصر النّهضة إلى نهاية ق 19ن مرورا
بعصر الأنوار و الثورة الفرنسية، وما صاحبها من ثورات فكرية و علمية و صناعية
تحوّلت معها بنية المجتمع الأوروبي من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث صناعي. كما أنّ
للثّورة العلمية التي حقّقتها العلوم الحقّة، خاصّة الفيزياء و الطّبيعيات، كان
لها الأثر في توجيه التفكير في القضايا الكبرى التي بدأت تطرحها التحوّلات، و التي
أفرزت أفكارا كانت منبرا لأعمال مفكّرين أوائل، يُعتبرون من رواد الفكر
السوسيولوجي المعاصر. هؤلاء الروّاد استلهموا تصوّراتهم و مناهجهم ممّا حقّقته
العلوم الطّبيعية و الفيزيائية من نتائج علمية، و التي جعلت أسلوب التّفكير في
هذين العلمين، أي الفيزياء و الطبيعيات، هاجسا حرّك كلّ محاولات التفكير الاجتماعي،
للارتقاء به إلى الأسلوب العلمي و تأسيس معرفة علمية اجتماعية ترقى إلى نفس مرتبة
الفيزياء أو الطّبيعيات. فكان هذا الهاجس وراء تكوّن تصوّر يجعل من الفيزياء،
العلم الأمثل و النموذج الذي على المعرفة الاجتماعية و السوسيولوجيا في بدايتها
الأولى، الاقتداء به.
وبذلك
تشكّلت نظريات تقوم خلفياتها المعرفية على إقامة تناظر بين السوسيولوجيا و
الفيزياء أو البيولوجيا، هذا التناظر الذي جعل من بعض النظريات تبحث عن خصائص التشابه
بين العالَم الطبيعي و العالم الاجتماعي، و البحث عن قانون يحكم الظاهرة
الاجتماعية على شاكلة الظواهر في العالم الطبيعي أو الفيزيقي.
و
لعلّ التّقدّم الذي حقّقه علم النّفس الفيزيائي في النّصف الثّاني من ق 19 من خلال
محاولات كل من فخنر و فيير، رسّخت فكرة أنّ تقدّم علم النّفس هو في تشكيله
بفيزياء، أي اهتمامه بالجانب الكمّي من الظّواهر النفسيّة، ووضع قوانين لها بنفس
الضّبط و اليقين الموجود في العلوم الطبيعية. و كنتيجة لذلك، أسّس فونيت 1875 أوّل
مختبر علمي للدّراسات السيكولوجية التجريبية، إيمانا منه بإمكانية إخضاع العمليات
النّفسية لدى الإنسان لنفس الأساليب التجريبية و المختبرية في العلوم الفيزيائية.
نفس الشّيء سنلامسه في المحاولات الأولى لتأسيس علم الاجتماع، الذي أُطلق عليه في
البداية مع أوغست كونت، بالفيزياء الاجتماعية.
فإذا
كانت الفيزياء تسعى إلى دراسة قوانين الطّبيعة، فإنّ الأولى لبناء علم الاجتماع،
ستسعى بجعله علما يدرس القوانين التي يخضع لها المجتمع، نفس الشّيء ستعرفه محاولات
تأسيس علم الاجتماع الشّكلي في ألمانيا، و التي حاولت أن تستوحي المنهج الرّياضي
في إقامة علم الاجتماع، وقولها بضرورة اقتصار هذا العلم على دراسة أشكال الظّواهر
الاجتماعية وصورها العامّة بغضّ النّظر عن مضامينها الإختبارية الفعلية، وهي
محاولة تريد إعطاء علم الاجتماع صبغة علم مستقلّ يدرس العلاقات القائمة بين
الظّواهر، مثلما تفعل الميكانيكا النّظرية و الرّياضيات اللتين لا تحتويان سوى على
مفاهيم مجرّدة و قواعد عامّة يظهر نفعها أثناء تطبيقها في العلوم الجزئية الأخرى.
لكن
نشير أنّ مختلف المحاولات التي كانت ترمي إلى إقامة علوم إنسانية مستوحاة من
العلوم الطّبيعية لم تصب الهدف الذي سعت إليه، و سبب فشلها أنّها إلى جانب إدراكها لوحدة المنهج التّجريبي العلمي، و إلى
ضرورة تبنّيه في ميادينه، بقيَ الاعتقاد سائداً و لمدّة طويلة من الزّمن أنّهل
ميادين لا يمكن أن تخضع لتحديد اليقين و الضّبط العلمي، فإنّها لم تُدرك أنّ
المنهج العلمي التّجريبي رغم وحدته تلك، فإنّه يتلوّن بتلوّن الموضوع و يتخصّص
بتخصّصه. لذا، لم تُعطِ أهمّية كبرى لخصوصية الظّواهر الإنسانية ولنوعيتها. إلاّ
أنّه لا يمكن أن نَنفي أنّ هذه المحاولات كان لها الأثر الإيجابي في بناء علوم
إنسانية واجتماعية قائمة على أسس علمية.
إذن، ما هي هذه المحاولات، و من هم روّادها؟. وما هي أهمّ
القضايا التي تمحور حولها تفكيرهم؟. و ما هي طبيعة المعرفة التي قدّموها؟. وما هي
أهمّ إسهاماتهم الإيبّيستمولوجية في مجال التّأسيس العلمي للسوسيولوجيا؟.
أوّلا رواد التّأسيس الأوائل و اتّجاهاتهم
الفكرية
يتّفق العديد من دارسي علم الاجتماع أنّ التّأسيس الفعلي
للسوسيولوجيا تمّ خلال ق 19، و أنّ هذا التّأسيس اطّبع بأطروحات ثلاثة روّاد
أساسيين هم: أوغست كونت (1792ـ1857)، و كارل ماركس (1818ـ1883)، و ألكسيس ديطورفيل
(1805ـ1859). و يشير ريموند أروند كوّنوا أفكارهم خلال ق 19، أي جعلوا موضوع
كتاباتهم، الوضعية التي آل إليها المجتمع الأوروبي خلال هذه الفترة، و قد عملوا
على تبيان علامات الأزمة التي بدأت تظهر
وقتئذ على المجتمع الحديث، لكنّ تفسيرهم لهذا المجتمع وإلى مظاهر الأزمة
فيه، عرف اختلافا في وجهة نظر كلّ منهم.. فأوغست كونت رأى بأنّ هذا المجتمع هو
مجتمع صناعي يتميّز باختفاء البنيات الفيودالية و التّفكير الغيبي، وكارل ماركس
رأى بأنّه مجتمع رأسمالي يتميّز بصراع بين قوى الإنتاج و ما يترتّب عنه من صراع
طبقي، أمّا دورفيل، فرأى أنّه مجتمع يتحدّد بخصائص الديمقراطية. وهذا الاختلاف هو
ناتج في المنطلقات الفكرية و الفلسفية لكلّ منهم.
لكنّ استكمال البناء للسوسيولوجيا من خلال تحديد موضوعه
ومنهجه بدقّة، سيتمّ خلال نهاية ق 19 مع ثلاثة روّادهمك إيميل دوركهايم
(1858ـ1917)، و فيرفريدو بارنيتو (1848ـ1923)، و ماكس فيبر ( 1864ـ1920).. و يشير
ريموند أروند أنّ الشيء الذي يميّز على
عكس من سبقوهم، أنّهم ينتمون إلى جيل واحد، بمعنى إلى نفس حقبة التّفكير، أي أنّهم
عاشوا نفس القضايا و الإشكالات المجتمعية، و معهم سيعرف علم الاجتماع تطوّرا في
بنائه العلمي من خلال تحديده لموضوعه ومنهجه بدقّة، و ما رافق ذلك من تطوّر و
تنوّع في نظرياته.
سنتناول في هذا الدّرس أهمّ الرّوّاد، خاصّة الذين كان
لإسهاماتهم تأثير مباشر على تأسيس علم الاجتماع و على بناء موضوعه و منهجه.
- أوغست كونت و فلسفته الوضعية
من النّاحية التّاريخية يعود الفضل في ابتداع لفظة
السوسيولوجيا أو علم الاجتماع إلى أوغست كونت الذي يعتبر ملهم هذا العلم، حيث نجد
أنّه وضعه على رأس العلوم من ناحية الأهمّية و التّعقيد، وذلك من خلال تصنيفه
للعلوم التي جعلها كالآتي : 1. الرياضيات، 2. علم الفلك، 3. علم الطّبيعة، 4.علم
الكيمياء، 5. علم الحياة، 6. الفيزياء الاجتماعية، ثمّ سمّاها فيما بعد
بالسوسيولوجيا. كما أنّنا إذا تمعّنّا في أعماله نجد أفكارا و قضايا متعلّقة بمجال
علم الاجتماع و منهجه لم تسبقه إليها معظم التّيّارات الملحوظة في تاريخ علم
الاجتماع. فإلى جانب أنّه ممهّد الطّريق أمام التعريف الحديث لعلم الاجتماع
وأقسامه الأساسية، فإنّه جعل منه الأداة الضّرورية للإصلاح الاجتماعي. في كتابه
" دراسات في الفلسفة الوضعية "، قسّم علم الاجتماع إلى قسمين أساسيين:
علم الاجتماع الخاص بالاستقرار أو ما أسماه بالاستاتيكا الاجتماعية، و علم
الاجتماع الخاص بالتطوّر أو الديناميكا الاجتماعية، و قد اعتبرهما مظهرين مختلفين
لحقيقة واحدة، و أنّ التّقسيم بينهما لا يكون إلاّ في الملاحظة فقط. فالملاحظة في
القسم الأوّل تفترض في المجتمع حالة الثبات، بينما تفترض التّطوّر في التّقسيم
الثّاني.
رأى كونت في تحليله الاستاتيكي للمجتمع أن الأسرة هي
النّواة الأولى للمجتمع و يجب أن تكون لذلك وحدة الدّراسة، لأنّها أول خليّة في
جسم المجتمع و أوّل ثمرة للحياة الاجتماعية. و المجتمع الإنساني يتكوّن في نظره من
أسر لا من أفراد. الفرد فكرة مجرّدة في نظر علم الاجتماع و كل قوّة اجتماعية تنتج
عن تعاون يتفاوت نطاقه سعة أو ضيقا، أس عن تضافر النّشاط بين عدد كبير أو صغير من
الأفراد. و القوّة الطّبيعية هي القوّة الوحيدة التي يمكن أن تكون فردية محضة. و
إذا كانت الأسرة هي العنصر الأول في علم الاجتماع الخاص بالاستقرار، فإنّ هذا
العنصر بذاته يتركّب برغم ذلك من أشخاص مستقلّين.
و خلص كونت في دراسته إلى أنّ القوانين التي تحكم
الأسرة، تخالف تلك التي تحكم المجتمع، وأنّ المجتمع لا يمكن تفسيره بالقوانين التي
تحكم الأسرة، فالأسرة اتّحاد يتميّز خصوصا بطبيعة الخلقية و العاطفية، أمّا
المجتمع فليس اتّحادا بل تعاونا و اتّفاقا.
أمّا القسم الثاني من هذا العلم، فقد أكّد كونت في تحليله للحالة الدينامية
للمجتمع أنّها تمثّل أهمّ جزء في فلسفته الوضعية. إنّ هذا القسم يدرس عوامل
التّقدّم أو التّغيّر الاجتماعي، كما يدرس تغيّر النّظم الاجتماعية من عصر لآخر و
العوامل المؤثّرة فيه. إنّ أهم ما يميّز الدراسة الديناميكية في نظره هو فكرة
التّقدّم الذي يرى أنّه ظهر أوّلا في العلوم الطّبيعية ثمّ اخذ يتّجه إلى النّواحي
الاجتماعية، لذا فقد جعل الدّراسة الديناميكية تمثّل التّقدّم الإنساني الذي وضّحه
في قانون الحالات الثّلاث الذي تخضع له المجتمعات الإنسانية بتطوّرها و تقدّمها.
يشير كونت أن الفكر
البشري يمرّ في تطوّره من ثلاث حالات: اللاهوتية و الميتافيزيقية و الوضعية. فخلال
الحالة اللاّهوتية عرف فيها التّفكير البشري ميله إلى تفسير الظّواهر بالرّجوع إلى
أسباب خرافية أو خيالية أو أسطورية. كما أنّ لهذه المرحلة كما يصفها كونت أقسامها
الهامّة. يبدأ القسم الأول بما يسمّيه بالفيتيشية أو الوثنية Fétichisme و خلالها يتمّ التّعامل مع
الأشياء المادّية و كأنّها حيّة لها مشاعرها و أغراضها، و القسم الثّاني هو مرحلة
تعدّد الآلهة Polythéisme و خلالها يتمّ تصوير الآلهة و كأنّها قوى خفيّة أو شبه خفيّة
تتحكّم بجميع أصناف الظّواهر، أمّا القسم الأخير فسمّاه بطور التّوحيد Monothéisme و يتميّز
بظهور المسيحية.
أمّا
المرحلة الميتافيزيقية فتميّزت بتصوّر الطبيعة على أنّها المبدأ أو السّبب الأول
الذي من الضّروري افتراضه من اجل تعليل نظام الكون، و هي حالة عقلية لا تستند في
تعليلاتها إلاّ على ما في الأشياء من خصائص دفينة. و هنا بعد أن كان الإنسان في
المرحلة اللاّهوتية يرجع كلّ شيء إلى قوّة خارجية تتمثّل في الآلهة و الأرواح
الخفيّة، أصبح في المرحلة الميتافيزيقية يتخيّل قوى و خواص أوّلية كامنة داخل
الأشياء نفسها جعل منها المحرّك الأوّل/السّبب الأول للظّواهر المختلفة، فالأجسام
تتوحّد لأنّ بينها نوعا من التّآلف، و النّبات ينمو لأنّه يتمتّع بروح نامية.
أمّا
الحالة الوضعية، و هي المرحلة الأخيرة في التطوّر الفكري البشري، و فيها يدرك
العقل البشري استحالة الوصول إلى حقائق مطلقة. كما أنّه تخلّى عن البحث عن علّة الأشياء
و غايتها النهائية، واكتفى باكتشاف القوانين التي تسير عليها الظّواهر المختلفة. و
البحث عن القوانين معناه البحث عن العلاقات الثابتة التي تنظّم الظّواهر في
تعاقبها و توافقها.
و
لتشخيص المرحلة الوضعية، يقدّم إلينا كونت نظرية المعرفة الخاصّة به، و هي تجريبية،
حيث يرى أنّ التّفكير العلمي كلّه ملزم بقبول اختبارات الملاحظة كشواهد قاطعة على
صحّة أيّة فرضية.
و
يطبّق كونت تصوّره لتطوّر العقل البشري على تطوّر المجتمعات الإنسانية، و يقول
أنّه لا يمكن فهم تطوّرها إلاّ إذا وقفنا على تاريخ التطوّر العقلي، فهو يجعله
المحور الأساس الذي تدور حوله مظاهر النّشاط الاجتماعي، و أيّ تطوّر يطرأ على
الفكر يظهر أثره في جميع نواحي الحياة الاجتماعية، فهو يرجع كلّ تغيير اجتماعي في
أيّ نشاط إلى التغيّر الذي يحدث في التّفكير. كما أنّ العلوم و المعارف التي ذكرها
مرّت بهذا التطوّر، فهو يقول : إنّ علم الفلك، المؤلّف أوّلا و قبل كلّ شيء من
وقائع عامّة، بسيطة، مستقلّة عن العلوم الأخرى، قد وصل إلى المرحلة الوضعية قبل
بقيّة العلوم، و تلته الفيزياء الأرضية، ثمّ الكيمياء، و أخيرا الفيزيولوجيا. و
يشير كونت أنّ هناك علوما لا زالت وقتئذ خارجا عن الفلسفة الوضعية، كما أنّه لم
يذكر الظّواهر الاجتماعية على الرّغم من أنّها تصنّف مع الظّواهر الفيزيولوجية،
فهو يقول: " إنّ الظّواهر الاجتماعية تتطلّب تصنيفا متميّزا لأهمّيتها و
صعوبتها معا. فهي أكثر جميع الظّواهر تفرّدا و تعقيدا و اعتمادا على العلوم الأخرى.
كما
يجعلها موضوع علم يعتبره العلم الذي تكتمل به سلسلة علوم الملاحظة و هو علم
الفيزياء الاجتماعية، و يقول عنه إنّه العلم الذي يحتاج إليه النّاس الآن أشدّ
الحاجة، كما جعله الهدف من عمله الفكري. و أطلق عليه فيما بعد السوسيولوجيا، و
اعتبره العلم الذي سيواكب المرحلة الوضعية. فهو يرى أنّه إذا كان الهدف من تنظيم
المجتمع على قاعدة العلم، فإنّ السوسيولوجيا هي العلم الكفيل بالقيام بذلك، حيث
جعله العلم الذي يدرس المجتمع برمّته في جميع مظاهره و مقوّماته. و هي رؤية منسجمة
مع فلسفته الوضعية التي تعطي الأولوية للكلّ على الجزء، كما أنّها تقوم على تقديم
الاجتماعي على الفردي من منطلق أنّ النّظام الاجتماعي يؤثّر على غيره من الأجزاء.
و يقول في هذا الصّدد: " إنّ الوضعية لا تقرّ حقّاً غير حقّ القيام بالواجب،
و لا تقرّ واجباً غير واجبات الكلّ اتّجاه الكلّ، لأنّها تنطلق دائما من وجهة نظر
اجتماعية، و لا يمكن لها أن تقبل بمفهوم الحقّ الفردي، فكلّ حقّ فردي هو عبثي بقدر
ما هو غير أخلاقي.". كما أنّه حدّد موضوع الفيزياء الخاصّة بالظّواهر
الاجتماعية، حيث يقول : إنّني أعني بالفيزياء الاجتماعية ذلك العلم الذي له موضوع
خاص هو دراسة الظّواهر الاجتماعية المعنية بنفس الرّوح التي تُدرس بها الظّواهر
الكونية و الفيزيائية و الفيزيولوجية، من حيث كونها موضوعا للقوانين الطّبيعية
الثّابتة. « J’entends par
physique sociale, la science qui a pour objet propre, l’étude des phénomènes
sociaux considérés dans le même esprit que les phénomènes astronomiques,
physiques et physiologiques. C'est-à-dire, comme assujettie, à des lois
naturelles invariables dont la découverte et le but spéciale de ses
recherches » .
أمّا بخصوص منهج هذا
العلم فقد جعل ركائزه قائمة على الملاحظة و التّجربة التي تقوم على منطق المقارنة
بين الظّواهر و المجتمعات، و أخيرا التّحليل التّاريخي المنطلق من دراسة الأفكار و
تحليلها كمقدّمات أساسية لفهم التطوّر الاجتماعي. لكن على الرّغم من إشارته إلى
هذه الرّكائز المنهجية فإنّه جعل الملاحظة أهمّها و أكثرها دقّة، لأنّها في نظره
الأكثر اتّساقا مع الفهم العلمي.
إنّ تناول مساهمة كونت
في بناء علم الاجتماع لا تنفكّ عن نوع التّأثير الذي انطبعت به معظم مقولاته التي
تنطلق من فلسفته الوضعية التي ورثها من رائد الوضعية سان سيمون ( 1760ــ1825)، ذلك
أنّ هذا الأخير هو من وضع بذرة المذهب الاجتماعي الوضعي كما بلورها كونت. فعلم
الإنسان كما يصوّره سان سيمون، سيكون موضوعه الأساس هو إعادة النّظر في التّاريخ
من وجهة وضعية.... والنّظر في التّنظيم الاجتماعي من وجهة نظر علمية، أي فهمه في
صيرورته و إدراج كل عنصر من عناصره في التّتابع الزّمني. و يشير سان سيمون: إنّ
السلطة العلمية و الوضعية هي نفس ما يجب أن يحلّ محل السّلطة الرّوحية، ففي العصر
الذي كانت فيه كل معارفنا الشّخصيّة حدسية و ميتافيزيقية بصفة أساسية، كان من
الطّبيعي أن تكون إدارة المجتمع فيما يخصّ شؤونه الرّوحية في يد السّلطة
اللاهوتية، ما دام اللاهوتيون آنذاك هم الميتافيزيقيون الموسوعيون الوحيدين. و
بالمقابل عندما تصبح كل أجزاء معارفنا قائمة على أساس الملاحظة، فإنّ غدارة شؤون
الرّوحية يجب أن تُسند إلى القدرة العلمية باعتبارها متفوّقة عن اللاهوتية و
الميتافيزيقية، و على هذا الأساس، فإنّ وظيفة علم الإنسان ستكون متعارضة تماماً مع
الوظائف القديمة التي تؤدّيها المعرفة اللاهوتية أو الفلسفة، فهذا العلم لن يكون
أبدا من وظيفته اضطهاد الفكر و إبعاده عن المشاكل الواقعية.
يخلص سان سيمون في مذكّرته
عن علم الإنسان أنّ الفيزيولوجيا التي يكون علم الإنسان جزءا منها، يجب أن تُدرس
تبعا للمنهج الذي تسير عليه العلوم الفيزيقية الأخرى، فالفيزيولوجية الاجتماعية
عنده هي المرادفة لعلم الاجتماع باعتبارها دراسة المجتمع خلال عمله. و لهذا يقول
جورفيتش خلال انتقاده لعلم الاجتماع عند سان سيمون أنّه يتميّز بالخلط بين علم
الاجتماع (علم الإنسان) أو الفيزيولوجيا الاجتماعية كما كان يُسمّيه، وبين فلسفة
التّاريخ، ممّا جعله يبشّر بمفهوم الفترة الوضعية التي يقوم فيها الهرم الاجتماعي
من تلقاء نفسه و حيث لا يظهر أي صراع.
و يمكنك القول إنّ الفكر
الوضعي مع سان سيمون كان على درجة من الوضوح بحيث لا نجد اختلافا في التّحليل و
أسلوب التّفكير بينه و بين كونت، وإن كان هذا الأخير قد وسّع من دائرة الوضعية
ليجعل منها نظرية متكاملة ذات بعد فلسفي تستوعب مجموع الثرات الإنساني، ماضيه و
حاضره، وجعل منها منطلقا في التّحليل يمتدّ إلى كلّ مجالات العلوم، الطّبيعية منها
و الاجتماعية و الإنسانية.
و يؤكّد ليفي بريل، و هو
من الأتباع المخلصين للوضعية، أنّ كونت كان يمثّل فلسفة القرن 19 بأسره، فمن بين
جميع المذاهب التي نشأت في فرنسا، كان مذهب كونت هو الوحيد الذي استطاع أن يتجاوز
الحدود و أن يترك أثرا قويّا في المفكّرين الأجانب، فامتدّت الرّوح الوضعية إلى
انجلترّا و الجامعات الألمانية.
و يمكن تفسير السرّ في
هذا الانفتاح إلى كون الوضعية وضعت حدّا بين الوضعية العلمية و ما سبقها من تحوّل
من مرحلة التّفكير الدّيني و الميتافيزيقي، و أنّ هذا التّحوّل حسب سان سيمون هو
أمر واقعي يتّفق مع السّير العام لتقدّم العقل البشري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق