بحث مقدم عن العالم إميل
دوركايم
إميل دوركايم (1858-1917م)
نبذه عن حياته :
ولد إميل دوركايم في 15ابريل 1858م في بلدة ابينال بالقرب من سهل اللورين
الذي يشتمل على بعض المدن الفرنسية. وفي أحضان أسرة يهودية نشا دوركايم فهو احد
أحفاد كبار أحبار اليهود ولد في أسرة تنحدر أصلا من حاخامات المذهب الرباني
اليهودي الذين يدينون بالمذهب العبراني الجديد ولذلك اتجه دوركايم منذ طفولته
وصباه نحو دراسة التلمود والعهد القديم كما درس أيضا العبرية والتاريخ ثم هجر
اللغويات كي يدرس تاريخ الأديان .
والى جانب اليهودية تأثر دوركايم
بتعاليم الديانة الكاثوليكية تلك التي لقنتها إياه إحدى مدرساته الكاثوليكيات وهي
امرأة لها فضل تربيته وتثقيفه ودرايته بتعاليم الدين الكاثوليكي التي تلقاها من
هده الكاثوليكية التي كان لها أثرها الواضح في نشأته الدينية تلك التي غلبت على
معظم كتاباته السوسيولوجية فجاءت دراساته في علم الاجتماع الديني ذات مسحه صوفية
متميزة.
وفي عام1878م ذاعت شهرة دوركايم ثم
انتقل للتدريس بجامعة بوردو وألقى دروسا في علم الاجتماع العائلي والجنائي وفي
التضامن الاجتماعي والانتحار وفي التربية والدين كما ألقى دروسا في تاريخ المذاهب
السوسيولوجية وفي المسئولية والجزاء والتنظيم الاجتماعي للقبائل الاسترالية
القديمة .(بدر،2008: 74-75)
توفي دوركايم في 15نوفمبر1917م بعد
الصدمة التي تلقاها بمقتل ابنه الوحيد في عمليات الحرب العالمية الأولى ,الابن
الذي خطط والده أن يكون وريثه العلمي .ذلك أن دوركايم جعل ابنه يتخصص بموضوع علم
اجتماع اللغة .وبعد مقتل ولده في الحرب فقد إميل دوركايم أمل العيش في الحياة فمات
وهو يحمل الأفكار المرة عن الحياة وويلاتها وعدم استقرارها .
يعتبر دوركايم احد دعائم الحركة العلمية
في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .وهو مؤسس علم الاجتماع
الحديث وزعيم المدرسة الفرنسية (الوظيفية) لعلم الاجتماع (الحسن،1991 :224) ولقد
ترك لنا دوركايم تراثا علميا يتمثل في مجموعة من المؤلفات والمقالات هذا بالإضافة
إلى إنشائه المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع .
ومن أهم مؤلفاته :
·
تقسيم العمل الاجتماعي .(1893)
·
قواعد المنهج في علم الاجتماع .(1895)
·
الانتحار .(1897)
·
التربية الخلقية .(1903)
·
الصورة الأولية للحياة الدينية .(1912)
·
علم الاجتماع والفلسفة.(1924)
·
المجلة السنوية لعلم الاجتماع عام 1896م
التي أصبحت لعدة سنوات المجلة الرئيسية للفكر الاجتماعي والبحث في فرنسا .
(بيومي،2000 :134)
وهناك ثلاثة عوامل شكلت تفكير دوركايم: المذهب العقلاني عند ديكارت
بتأكيده القوى للتحليل الصوري ,وعصر التنوير الذي يعد بعصر جديد يتحقق فيه
الاستخدام الحر للعقل ,ثم وضعية أوجست كونت التي أنارت الطريق لوجود علم جديد
للمجتمع ,بمنهجه ومدخله واتخذ مكانا مع العلوم الأخرى في قدرته على اكتشاف
القوانين واستخلاص التعميمات والقيام بالتنبؤ .والى جانب هذه التأثيرات التكوينية
لم تفشل نظرية التطور في أن تترك بصمة على تفكير دوركايم فقد ساعدته على رؤية
المجتمع في ضوء النمو العضوي وتشابك الأجزاء ,ولذلك أصبح المسرح مستعدا ليقوم
دوركايم بتقديم أعظم إسهام في علم الاجتماع قدمه إنسان ,وبدون دوركايم لسار تاريخ
علم الاجتماع في اتجاه آخر .وبدونه لكان علم الاجتماع في خطر بالغ من رده إلى علم
النفس الذي كان في ذلك الوقت علما أكاديميا كما كان الجو العام أكثر قبولا بنسق
فكري يفسر القوى التي تحرك المجتمع في ضوء الدوافع السيكولوجية والغرائز
والإشباعات . .(بدر،2008 :75-77)
المجتمع وعلم الاجتماع لدى
دوركايم
تعريف المجتمع عند دوركايم :
·
المجتمع لا يمكن أن يستمر إلا إذا وجدت
درجة كافية من التجانس والتربية ترسخ وتدعم هذا التجانس .
·
أما وظيفة المجتمع فهي تحقيق
التجانس,وأدوات التجانس هي التربية .
·
أن المجتمع هو قبل كل شي ضمير وهو ضمير
المجموعة الذي يجب إيصاله إلى الطفل .(الغريب،2009 :152), ومن وجهة نظري في هذا
التعريف الذي طرحه دوركايم للمجتمع انه غالى كثيرا في فكرة الضمير وأراد إثباتها
حتى في استخدامه لها في هذا التعريف بشكل موسع وبذلك ألغى وجود العقل والتفكير لدى
أفراد المجتمع وألغى كذلك شعور الفرد بالأنا ومن هذا المنطلق اتضح مدى رغبة وإلحاح
دوركايم في فصل علم النفس عن علم الاجتماع باعتباره علم مستقل بذاته.
ويتكون المجتمع من :
·
النظم الاجتماعية أو القواعد الاجتماعية
.
·
الظواهر أو الوقائع الاجتماعية .وهي
أنماط متكررة من السلوك الجماعي يشعر بها أفراد المجتمع .
·
قوى عقلية أو فكرية أو تيارات فكرية
ثقافية تتحكم في السلوك أو الفعل الاجتماعي .(الغريب،2009 :150)
تعريف علم الاجتماع عند دوركايم :
علم يهتم بالظواهر الاجتماعية
والالتزامات الأخلاقية الجمعية وخاصة تلك الظواهر التي تقهر الفرد على أن يسلك
سلوكا معينا داخل الجماعة .
تقسيم دوركايم لعلم الاجتماع
:
صنف ميادين علم الاجتماع في ثلاث
موضوعات رئيسية :
1.
المورفولوجيا الاجتماعية وهي عبارة عن
التركيب الجغرافي وكثافة السكان.
2.
الفسيولوجيا الاجتماعية وهي التي تتضمن
العمليات الديناميكية كالعقيدة والأخلاقيات والقانون والحياة الاقتصادية .
3.
علم الاجتماع العام أي العلم الشامل
الذي يجمع النتائج والقوانين العامة التي تصل اليها فروع علم الاجتماع مهما تباينت
مقدمات تلك النتائج وأساليب استنباط تلك القوانين . (بيومي،2000 :136)
أسس الدراسة ومنهجية البحث
عند دوركايم :
ينظر دوركايم إلى علم الاجتماع من حيث كونه يهتم بدراسة المجتمع وما ينبعث
عنه من ظواهر دراسة علمية وصفيه تحليلية. ولكي يتحقق هذا فانه لابد من منهج علمي
يستطيع بفضله الوصول إلى قوانين الظواهر.(الغريب،2009 :150)
قواعد المنهج العلمي عند دوركايم :
·
ضرورة تحرر الباحث الاجتماعي بصورة كلية
من كل فكرة سابقة يعرفها عن الظاهرة موضوع الدراسة والبحث .
·
ضرورة تخصيص مبحث أو فصل من البحث
لتحديد معنى المصطلحات والمفاهيم العلمية التي يستخدمها الباحث في دراسته العلمية
.وهذه المصطلحات تعبر عن الظواهر الاجتماعية التي يدرسها الباحث .
·
عند قيام الباحث بدراسة الظواهر
الاجتماعية المحددة في دراسته عليه ملاحظة هذه الظواهر .وهذا شرط ضروري حتى يمكن
التوصل إلى الصفات الثابتة التي تتيح لنا الكشف عن حقيقة الظواهر الاجتماعية ومن
ثم تسمح لنا بالكشف عن القانون الذي تخضع له .(الحسن،1991: 235-236)
أما خطوات منهج دوركايم في
علم الاجتماع فيمكن درجها بالنقاط التالية :
1.
دراسة مكونات الظاهرة وتحديد عناصرها
الأساسية لكي يتمكن الباحث من فهمها .
2.
دراسة أشكال الظاهرة في كل مرحلة من
مراحل تطورها لربط ماضي الظاهرة بحاضرها بطريقة منطقية .
3.
دراسة علاقة الظاهرة بالظواهر الأخرى
المشابهة وغير المشابهة لها .
4.
الاستفادة من منطق المقارنة بين الظاهرة
والظاهرة الأخرى .
5.
التعرف على الوظيفة التي تؤديها الظاهرة
الاجتماعية وتطوير تلك الوظيفة في مختلف المراحل التي تمر بها الظاهرة الاجتماعية
.
6.
تحديد القوانين التي يتم استخلاصها من
الدراسة بصورة دقيقة باعتبارها الهدف الرئيسي للعلم .
وقد تصاغ هذه القوانين في صور كمية تعبر
عن الظاهرة بالأرقام أو في صور كيفية تحدد الخواص والصفات العامة والدعائم
الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة .وهذا كله لابد أن يؤدي إلى رفع قيمة وفاعلية
علم مابين غيره من العلوم .
وكما يهتم المنهج عند دوركايم بالطريقة
التاريخية فانه يهتم أيضا بطريقة المقارنة ويعتقد دوركايم بان البحث عن العلاقات
السببية بين الظواهر الاجتماعية ليس إلا جانبا مهما من الجوانب التي يهتم بها علم
الاجتماع لذلك حاول أن يطور منهجا وظيفيا يلاءم دراسة الظواهر الاجتماعية ،علما
بان النزعة الوظيفية عند دوركايم هي بديل للمنهج الغائي الذي تكشف عنه كتابات كونت
وسبنسر .(الحسن،1991 :238-237) , ومن وجهة نظري أرى انه بالفعل كان لدوركايم
محاولة كبيرة في بناء وتحديد منهجية خاصة بعلم الاجتماع بعيدة عن المناهج المتبعة
في العلوم الطبيعية.
الظاهرة الاجتماعية عند
دوركايم
عرفها بأنها طرق للسلوك والتفكير
والشعور خارجة عن الفرد ولها من قوة التأثير ما تستطيع به أن تفرض نفسها على الفرد
.(بدر،2008 :77)
ونستطيع أن نستخلص من هذا التعريف صفات
الظاهرة الاجتماعية وهي كالتالي :
·
الظاهرة الاجتماعية هي ظاهرة موضوعية
لها وجود خاص خارج شعور الأفراد الذين يلاحظونها ويحسون بها لأنها ليست من صنعهم
بل يتلقونها من المجتمع الذي تنشا فيه.
·
الظاهرة الاجتماعية ليست هي وليدة
التفكير الذاتي عند الأفراد .
·
الظواهر الاجتماعية هي ظواهر شيئية وهذه
الخاصية هي التي اعتمد عليها دوركايم في تأسيس علم الاجتماع ذلك انه شبه حقائق
العالم الاجتماعي بحقائق العالم الخارجي .
·
الظواهر الاجتماعية هي أشياء خارجية
بالنسبة لشعور الأفراد .فالفرد يقبل الظاهرة ويخضع لها ويستسلم كما لو كانت قوة
خارجية .
·
للظاهرة الاجتماعية صفة الإلزام أو
القهر.أي تفرض نفسها على شعور وسلوك الفرد .
·
الظاهرة الاجتماعية هي ظاهرة إنسانية
تنشا بنشأة المجتمع الإنساني .
·
تمتاز الظاهرة الاجتماعية بأنها تلقائية
أي من صنع المجتمع ومن خلقه .
·
الظاهرة الاجتماعية هي ظاهرة عامة
وعمومية الظاهرة ناجمة من صفة القهرية .
·
تمتاز الظاهرة الاجتماعية بصفة الترابط
.بمعنى أن كل ظاهرة اجتماعية مترابطة مع الظاهرة الأخرى .(الحسن ،1991
:227-228-229)
فكرة الضمير الجمعي :
احد المفاهيم الكبرى لدى دوركايم أما من حيث القانون والأخلاق والضبط
الاجتماعي فهناك ولاء ملحوظ للضمير الجمعي الذي يعني مجموعة من المعتقدات والعواطف
العامة بين أعضاء المجتمع والتي تكون نسقا خاصا ومثل هذا الضمير له وجوده الخاص
المتميز فهو يدوم عبر الزمن ويعمل على توحيد الأجيال ,والضمير الجمعي يعيش بين
الأفراد ولكنه يتميز بالقوة والاستقلال وبخاصة حينما تزداد درجة التشابه بين
الأفراد .
وتعكس دراسة الضمير الجمعي عند دوركايم
نظريته عن القهر الاجتماعي .وترتبط معالجته للظواهر الاجتماعية ارتباطا وثيقا
بمناقشة الضمير الجمعي ،حيث يعد المفهوم من مفاهيم دوركايم الرئيسية حيث عرفه بأنه
: "مجموعة من المعتقدات والعواطف المشتركة لدى متوسط أعضاء المجتمع الواحد
والتي تشكل نظاما اجتماعيا محددا له حياته الخاصة به ".
ويعتمد الضمير الجمعي في وجوده على
الأحاسيس والعواطف والمعتقدات الموجودة في الضمير الفردي .وبالتالي أوضح أن هناك
ارتباطا ذا تثير متبادل بين الضمير الجمعي والأفكار الاجتماعية في الواقع
الاجتماعي نتيجة الضغوط التي يمارسها الضمير الجمعي على أعضائه . (الغريب،2009
:156)
وأنا
أرى أن العقل الجمعي لدوركايم والذي حدث في مصر وتونس ما
هو إلا عقل جمعي نتج من خلال ظلم وجور وطغيان وفساد للأنظمة الحاكمة على مدى فترة
طويلة من الزمان فصنع ذلك للناس تصورا جمعيا عن ظلم
حكوماتهم فانعكس على تصرفاتهم دون وعى مباشر
منهم وقاموا
بالثورة دون توقع من احد في مصر وقلبها في تونس, ولتعي كل
الحكومات
والأفراد على السواء تأثير العقل الجمعي وأهمية تلك النظرية.
تقسيم العمل :
يعتقد دوركايم أن ظاهرة تقسيم العمل ليست حديثة النشأة ولكن الجانب الاجتماعي
منها كان أكثر ظهورا في أواخر القرن الثامن عشر ولقد تطورت إلى الحد الذي جعلها
عامة وواضحة لكل فرد ولعل الاتجاه الذي اتخذته الصناعة الحديثة يكشف لنا بوضح مدى
عمومية وانتشار هذه الظاهرة والصناعة تهدف إلى تقسيم العمل إلى ابعد الحدود وأصبحت
المهن منعزلة متخصصة ليست فقط داخل المصنع بل أصبح كل إنتاج في حد ذاته متخصصا من
ناحية ومعتمد على غيره من ناحية أخرى كذلك في معظم قطاعات المجتمع سواء في الوظائف
الاداريه أو العلمية أو غيرها ونجد شبيها لذلك أيضا في الكائنات العضوية
والمجتمعات .ويرى دوركايم انه لكي نصل إلى تعريف موضوعي لتقسيم العمل لابد من
ملاحظته ومقارنته ودراسته كحقيقة موضوعية ولما كان تقسيم العمل يتضمن كل من القوة
الإنتاجية وقدرة العامل لذلك فهو شرط ضروري لتقدم المجتمعات سواء أكان فكريا أو
ماديا ,والوظيفة الأساسية لتقسيم العمل
انه يخلق شعورا بالتضامن والتماسك والترابط بين الأفراد علاوة على ذلك له اثر
ملحوظ وواضح في زيادة الوظائف المقسمة المتخصصة .(بيومي،2000 :142)
تقسيم العمل يختلف باختلاف حجم المجتمع
وكثافة السكان وشدة التفاعل الاجتماعي فازدياد السكان عامل أساس لتقسيم العمل
ويعتبر كتابه تقسيم العمل أهم النصوص المنهجية في علم الاجتماع والتي حللت
التصورات الطارئة خلال القرنين 18و19م لذا خصص دوركايم الكتاب ليوضح رأيه في
إمكانات تطبيق المقاربة الوظيفية من مبدأ يعتبر الوظيفية مبدأ نسبيا منهجيا . وهو
يرى انه قد ترتب على تقسيم العمل شدة الصراع من اجل البقاء والاستمرار ،فكثرة
العدد تفرض على الأفراد ضرورة التخصص المهني مما يقلل من حدة الصراع ويتيح فرصة
أوسع للحصول على وسائل الحياة .
وعن الوظيفة الايجابية لتقسيم العمل يرى
دوركايم أن تقسيم العمل وما يترتب عليه من تباين بين الأفراد يعمل على تدعيم نوع
من التماسك المتبادل في المجتمع وينعكس هذا التساند المتبادل على العقلية
الإنسانية والأخلاقيات كما انه يبرز في ظاهرة التضامن العضوي ذاتها .وكلما ازداد
هذا التضامن رسوخا قلت أهمية الضمير الجمعي .وهكذا يستبدل القانون الجنائي القائم
على جزاءات رادعة بقانون مدني إداري يهدف إلى حفظ حقوق الآخرين بدلا من العقوبة .
(الغريب،2009 :157)
التضامن والتغير الاجتماعي:
يعتبر من إسهامات دوركايم تصوره وجود شكلين أساسين من التضامن بين أفراد
المجتمع يعكسان بصورة أساسية نظريته نحو التطور والتغير الاجتماعي وهما :
1.
التضامن الآلي : وهو إحدى خصائص
المجتمعات التقليدية التي يتضاءل فيها نظام تقسيم العمل .حيث يحدث نوع من التماثل
والتشابه بين أنماط العمل السائدة في هذه المجتمعات كما تظهر المعايير الاجتماعية
باعتبارها قوة ضاغطة وتمارس نوعا من القهر والإجبار .وتحدث نوع من التماسك حيث
تتمثل المعايير والأعراف والتقاليد والقيم وتتقارب وجهات النظر والآراء إلى درجة
كبيرة .
2.
التضامن العضوي: وهو إحدى خصائص
المجتمعات الحديثة المتقدمة التي تقوم على نظم معقدة لتقسيم العمل وتنوع نمط
العلاقات التعاقدية التي تؤدي إلى انخفاض درجة التضامن الاجتماعي وندرة مظاهر التضامن
.كما تؤدي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية
وضعف قوة الضبط الاجتماعي وظهور مظاهر متعددة للانحراف والجريمة والتعدي على حقوق
الآخرين .(الغريب،2009 :154-155)
ظاهرة الانتحار :
تمثل دراسة دوركايم عن الانتحار1897م مكانة هامة في الدراسات السوسيولوجية
وكتابه هذا باجتماع معظم علماء الاجتماع يعتبر رائدا في تطبيق المنهج
الإحصائي(الكمي) في دراسة الظواهر الاجتماعية ,وهم يرون أنها أكثر ما تكون دراسة
إحصائية ذلك لأنه عرفنا كيف يمكن أن ندعم البيانات التجريبية في موقف نظري معين.
تعريف ظاهرة الانتحار عند دوركايم :"يشير
الانتحار إلى كل حالات الموت التي تكون نتيجة مباشرة لفعل ايجابي أو سلبي قام به
الشخص المنتحر وهو يعلم انه سيؤدي إلى هذه النتيجة " .(بيومي،2000 : 146-147)
, وبالرغم من أن عملية الانتحار عملية شخصية بحتة إلا انها لا تخرج عن نطاق
المجتمع الذي يعيش فيه المنتحر إذ أن القوى الاجتماعية المحيط به وليس حالته
النفسية هي التي تدفعه إلى قتل وتدمير ذاته، ويضيف دوركايم قائلا بان التناقضات
والأخطاء التي قد تظهر في البناء الاجتماعي لابد أن تكون عاملا من عوامل تفاقم
مشكلة الانتحار ,فكلما كان الأفراد منسجمين مع المجتمع ومتكيفين لعاداته وتقاليده
وظروفه كلما تنخفض فيه نسبة الانتحار والعكس هو الصحيح .لهذا السبب نرى بان نسبة
الانتحار عالية في المجتمعات لصناعية المعقدة ومنخفضة في المجتمعات الزراعية
البسيطة التي تتكون من جماعات تربط أفرادها علاقات ايجابية ومتكاملة .لهذا يشير دوركايم
إلى أن نسب الانتحار تكون عالية في المدن ومنخفضة في القرى والأرياف, وتكون عالية بين العزاب ومنخفضة بين
المتزوجين لاسيما هؤلاء الذين لديهم أطفال ،وتكون عالية بين المسيحيين البروتستانت
ومنخفضة بين اليهود والمسلمين ،وأخيرا تكون نسبة الانتحار بين العسكريين أعلى من
المدنيين .
أنواع الانتحار عند دوركايم:
1.
انتحار الوحدانية أو العزلة الاجتماعية
(Egoistic
Suicide)
يظهر هذا النوع من الانتحار نتيجة
لانعزال الفرد عن المجتمع لسبب ما يتعلق بالفرد نفسه أو يتعلق بالمجتمع الذي ينتمي
إليه الفرد ويتفاعل معه ،فهذا الفرد لا يستطيع تكوين علاقة طبيعية مع المجتمع لعدم
تذوقه لقوانين وعادات المجتمع وسخطه على نظامه ووضعه العام ،والمجتمع من جانبه لا
يعطي المجال للفرد للتفاعل معه والانسجام مع مؤسساته البنيوية نظرا لتناقض ميوله
واتجاهاته ومصالحه وأهدافه وقيمه مع تلك التي يتمسك ويؤمن بها الفرد .لذا يشعر
الفرد بالبعد والاغتراب عن المجتمع وهنا يفقد آماله وطموحه ويضيع كل شي له علاقة
بالمجتمع ويفشل في تذوق ثمرة عمله وجهوده,لذا تنعدم عنده معاني الحياة السامية
ويفقد مثله وقيمه ومقاييسه بعد ذلك يصاب بمرض نفسي خطير قد يؤدي به إلى الانتحار .وهذا
النمط من الانتحار غالبا ما يصيب الأشخاص المعدمين والمحرومين والذين يعانون من
الأمراض النفسية والعقلية . ومن وجهة نظري اعتقد ان هذا النوع من الانتحار يظهر
بنسبة كبيرة في الوطن العربي بين الشباب في الوقت الحاضر وذلك قد يرجع الى ازدياد
نسبة البطالة بشكل ملحوظ وقلة فرص العمل مقابل الازدياد السكاني وكذلك حرمان
الشباب من حقوقهم المشروعة في العمل وشعوره بالاحباط مما يؤدي به الى الاقدام على
الانتحار.
2.
انتحار التضحية في سبيل الآخرين (Altruistic Suicide)
يعتبر انتحار التضحية في سبيل الآخرين
مناقضا من حيث أسبابه ودوافعه لانتحار الوحدانية فهو ناتج عن شدة تماسك وانسجام
الفرد مع جماعته وقوة علاقته الاجتماعية معها ذلك أن جماعته كما يعتقد لها أهميتها
وفاعليتها في وجوده وكيانه فهو لا يستطيع العيش دون وجودها ويكون معتمد عليها
ومتأثر بتعاليمها وفلسفتها وأساليبها السلوكية كما يكون مستعدا على التضحية بماله
ونفسه من اجل بقائه واستمرارها إذا تعرضت للخطر والتهديد وعندما تتعرض الجماعة
لخطر العدوان أو التفكك فانه يقوم بالدفاع عنها بكل ما يملك من قوة وباس ،وفي
أحيان كثيرة ينتهج الصيغ الانتحارية لإنقاذها من مأزق التشتت والانهيار والفناء
.وإذا فشل في إنقاذ الجماعة من الخطر فإنه يقدم على الانتحار علما منه بأنه لا
يستطيع العيش بدونها ولا يريد مشاهدة وضعها البائس والمتشتت بعد عجزها في درء
الأخطار والتحديات عنها والعمليات الانتحارية التي يقوم بها بعض أفراد القبائل
عندما تتعرض قبائلهم بالغزو والاحتلال والسبي من قبل القبائل الأخرى إلا مثال حي
على هذا النوع من الانتحار ،وارى في هذا النوع من الانتحار انه غالبا ما يكون في
المجتمعات التي تعاني جراء الحروب والعدوان مثال ذلك فلسطين وإقدام العديد من أطفالها
وشبابها ونسائها على العمليات الانتحارية (الاستشهادية) .
3.
انتحار التفسخ الاجتماعي (Anomic Suicide)
يظهر هذا النوع من الانتحار عندما يفشل
المجتمع في السيطرة على سلوك وعلاقات أفراده ,وعندما تتفسخ الأخلاق والآداب والقيم
وتضعف العادات والتقاليد وتعم الفوضى والفساد في ربوع المجتمع وهنا يفقد الفرد
آماله وطموحاته وتضعف أو تنعدم عنده الرغبة في التفاعل مع الآخرين والانسجام معهم
. وعندما يشعر الفرد بعدم قدرته على وضع حد لهذه الحالة المتفسخة والشاذة وعجزه عن
تغيير المجتمع نحو الأحسن فانه يصاب باليأس والقنوط وانعدام الآمال والأهداف .
ومثل هذه الحالة تلحق به المرض النفسي والكآبه والاشمئزاز من الحياة . إذن التفسخ
الاجتماعي (Anomie)الذي يعبر عن نفسه في ارتباك
موازين الحياة واضطراب قيمها ومقاييسها وتشتت آمال وأهداف الفرد وتناقض مصالحه مع
مصالح المجتمع لابد أن يدفع عدد غير قليل من أبناء المجتمع إلى الانتحار .أما الأفراد
الذين يتعرضون لهذا النمط من الانتحار فهم المطلقون والمطلقات والذين يتعقدون بقيم
ومقاييس ومثل معين اكتسبوها من وسط المجتمع الذي عاشوا فيه وتفاعلوا معه وعندما
تغير هذا المجتمع وتغيرت معه القيم المقاييس والمثل لم يستطيع الأفراد المسنون مثل
تغير قيمهم ومثلهم القديمة وإدخال القيم الجديدة التي دخلت المجتمع مؤخرا . وهنا
يتعرض هؤلاء إلى عدم التكيف مع المجتمع الجديد فيفقدوا طموحاتهم وأهدافهم ويصبحوا
من نقاد المجتمع والحاقدين عليه وعندما يفشلون في تغيره أو إصلاحه وفق أفكارهم
وقيمهم وميولهم واتجاهاتهم فأنهم سرعان ما يصابون بخيبة الأمل واليأس ومثل هذه
الحالة المأساوية قد تدفع بعضهم إلى الانتحار لتخلص من الحياة ومنغصاتها
.(الحسن،1991 :247-249) ، وبرائي أن انتحار التفسخ الاجتماعي قد يحدث بشكل ملحوظ
في المجتمعات التي تصاب بانقلاب مفاجئ أو تغيير عكسي ولم تعد قادرة على السيطرة
على جميع مجريات هذا التغير ومحاولة الإصلاح أو التكيف معه .
نظرية دوركايم في الدين :
قد يكون كتاب دوركايم "الصور الأولية
للحياة الدينية"(1912م) أجرئ كتاب لدوركايم .وهو يقوم على أساس افتراض كانت
الاثنولوجيا تعتبره افتراضا كاذبا أو على الأقل غير دقيق،وهذا الافتراض يقول
بالتحديد أن الطوطمية ليست سوى دين وعلى أي حال فمازال دوركايم يعتقد أن الدين ليس
وهما ولكنه بداية لكل الثقافات والحضارات.فالدين هو جوهر الجماعة ،انه القوة
الغامضة التي يشعر بها الأفراد وتوثر فيهم إذا لم يكونوا بمفردهم وإذا تجمعوا معا
للقيام باحتفال مشترك .انه الشيء الذي يشتركون فيه جميعا انه ينظم حياتهم ويعطيهم
الشعور بالأمن والسعادة ولكنه يفرض عليهم سلوك الجماعة الأخلاقي ،وان سلوك التوحد
مع القوة الخارقة للطبيعة يتحقق في طقوس الأضحية وفي طقوس الاستعداد للصيد البري
أو صيد السمك أو الحرب،كما يوجد هذا السلوك في الإشارات والرموز والممارسات
السحرية والتي من خلالها يظهر التنظيم الاجتماعي .أي أن التنظيم الاجتماعي الذي
يشعر به أعضاء الجماعة ويمارسونه إنما ينعكس في الدين .(بدر،2008 :79), ومن وجهة
نظري أرى أن دوركايم من خلال تفسيره ظاهرتي الدين والأخلاق بأنها وليدتا أسباب
اجتماعية فقط ففي ذلك إلغاء الفطرة الإنسانية والنزاعة إلى الإيمان بالله والى
عبادته والى فضائل الأخلاق , وذلك ينافي تماما ما جاء على لسان رسولنا صلى الله عليه
وسلم في القران الكريم قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) "الاية 3 من سورة المائدة" .
من وجهة نظري استنتج أهم ما
قدمه من انجازات لعلم الاجتماع وهي كالتالي :
1-
أكد على ضرورة فهم الظاهرة الاجتماعية
لأسباب اجتماعية مما أدى إلى استقلالية علم الاجتماع .
2-
استخدم المنهجية العلمية التي اعتمدت
على لغة الكم في فهم الظواهر الاجتماعية عندما استخدم المنهج الإحصائي الذي أعطى
تكاملا لفهم الظاهرة في علم الاجتماع .
3-
استخدم الملاحظة والتجربة كطرق منهجية
في فهم الظواهر الاجتماعية .
4-
ابتداعه للعقل الجمعي واستخدام هذا
المفهوم لتفسير الظواهر .
5-
تأكيده على فكرة الموضوعية والحياد
الأخلاقي بمعنى تقرير الأشياء كما هي في الواقع و أن لا يقحم الباحث ذاته في
الدراسة .
6-
أصر على استخدام عامل الدين لفهم
الظواهر الاجتماعية .
أهم الانتقادات الموجهة
لدوركايم
1.
لقد اتهم دوركايم بالمادية عندما نادى
بان الظواهر الاجتماعية يجب أن تدرس كأشياء .
2.
انه تحمس أكثر من اللازم لسوسيولوجيته
وتغالى في تفسير الحقيقة الاجتماعية بحقيقة اجتماعية أخرى واشترط في استبعاده بعض
المؤثرات الأخرى في الحياة الاجتماعية .
3.
في دراسته عن الانتحار لم يلتفت إلى
العوامل الاجتماعية طبقا لما نادى به وهو تفسير الظاهرة الاجتماعية بظاهرة
اجتماعية أخرى .
4.
أوجه النقص الأساسية في نظريات دوركايم
إنما ترجع إلى ذلك التصور الذي يتأتى من تعاريفه ،فالتعريفات بالنسبة إلى ذلك
تعريفات مبدئية بمعنى أنها تظل دائما في حاجة إلى تعديل كما أن أفكاره المنهجية
الأساسية مثل شيء وواقعه وميكانيكي وموضوعي والفرد والقهر كانت معاني متعددة غامضة
ويستخدم المصطلح في معاني مختلفة .
5.
نزعته المحافظة أي تأثره بظروف عصره وقد
كتب دوركايم خلال فترة تفكك اجتماعي .
6.
اعتمد على تاريخ مجتمعات بعينها لتأييد
وجهة نظره في تطور الأشكال الاجتماعية ,وأهمل المجتمعات الأخرى مما افقد نظريته
الشمول والعمومية .
7.
في تحديده الظاهرة الاجتماعية بالجبرية
والتلقائية قد طمس بذلك فاعلية الإنسان وجعله عبدا لمصير مجهول ومعنى ذلك أن الناس
يخرجون إلى العالم وهم لا يملكون إلا أن يكونوا سلبيين يقبلون علاته .(بيومي،2000
:158-159)
قائمة المراجع والمصادر :
·
الحسن،إحسان محمد ,رواد الفكر
الاجتماعي ،دار وائل للنشر ،بغداد ،1999م .
·
الغريب،عبد العزيز بن علي ,نظريات
علم الاجتماع ،مكتبة الملك فهد الوطنية ،الرياض،2009م .
·
بدر ،يحيى مرسي ,علم الاجتماع مقدمة في
سوسيولوجيا المجتمع ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ,الإسكندرية ,2008م .
·
بيومي، محمد احمد ,أسس وموضوعات علم
الاجتماع ،دار المعرفة الجامعية ،2000م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق