جامعة
ابن طفيل
كلية
الآداب والعلوم الإنسانية
القنيطرة
مسلك
: علم الاجتماع
الفصل
الثاني
المادة:
نظريات سوسيولوجية معاصرة
الأستاذ:
خالد شهبار
·النظرية السوسيولوجية الماركسية
إن أي حديث عن النظرية الماركسية يستدعي ملاحظتين جوهريتين:
الملاحظة الأولى : إن حجم النقاشات الغنية والسجالات الحادة التي رافقت النظرية
الماركسية منذ ظهورها، والتي كانت تتغيى دحضها، إعادة صياغتها أوتبنيها، تؤكد أننا
أمام إحدى أهم وأغنى المنظومات المفاهيمية في تاريخ الفكر الإنساني. فباعتبارها تصورا محددا للمجتمع الإنساني، منهجا فكريا وإيديولوجية طبقية،
شكلت الماركسية محطة نوعية في المسار العام لتطور المعرفة الإنسانية، وبراديكما فكريا
مارس إغراءا كبيرا على قسط واسع من المثقفين، دفع Raymon Aron إلى تسميتها(أي الماركسية) "بأفيون المثقفين"[1]
مقتبسا عبارة ماركس الشهيرة التي تقول أن "الدين ليس سوى أفيونا للشعوب".
الملاحظة الثانية : بما أن ماركس كان فيلسوفا، مؤرخا، رجل اقتصاد، رجل سياسة
وعالم اجتماع، وبما أن النظرية السوسيولوجية الماركسية هي جزءا من فلسفة شاملة عن الكون، الفكر والمجتمع، فإن فهمها يصبح مستحيلا دون ربطها بالمقدمات الفلسفية
والنظرية التي تمهد لها. هذه المقدمات هي ما يسمى بالمصادر
الثلاثة للماركسية، أي : التراث الاشتراكي الطوباوي
الفرنسي، الاقتصاد السياسي الإنجليزي والفلسفة الألمانية الكلاسيكية.
لكن قبل هذا، لا بد أن نستجلي ونعرض بشكل مقتضب وسريع أهم
المفاهيم المركزية في هذه النظرية، والتي تعتبر
بمثابة أدواتها التحليلية. وهي كالتالي:
الاشتراكية: لا بد من إقامة تمييز بين
الماركسية والاشتراكية. فالماركسية نص نظري فكري، نوع من المعرفة يسعى إلى وصف، تحليل
وتفسير ظواهر معينة من الواقع المادي وإنتاج صور نظرية عنها. أما الاشتراكية فهي نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي بشرت به
الماركسية ودافعت عنه نظريا.
إذن، فخوض تجربة بناء هذا النظام من قبل أفراد وجماعات تبنت النظرية الماركسية
لا يعفي من احترام الفاصل الموضوعي بين معرفتهم للعالم ومحاولتهم إعادة صياغته، باعتباره
الفاصل بين الإدراك والإرادة.
نشير هنا إلى أن الاشتراكية ما هي إلا مرحلة انتقالية في الطريق إلى خلق المجتمع
الشيوعي المفترض فيه، في نظر ماركس، أن يكون خال من الطبقات الاجتماعية، مبني على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج،لاوجود
فيه للدولة.
فالاشتراكية والشيوعية هما طوران من تشكيلة اجتماعية واقتصادية واحدة، لأن الشيوعية
تأتي كتطور تاريخي للاشتراكية، كمرحلة حتمية في تاريخ البشرية يتم الوصول إليها بتطوير
القاعدة المادية والتقنية للاشتراكية. هذا التطور سيسمح بالانتقال من مجتمع يتقاضى فيه كل فرد حسب عمله،
جهده، كفاءته وطاقته (يعني أن ما يحصل عليه الفرد
مرهون بكمية ونوعية ما ينتجه، فمن يعمل أحسن ويحرز نتائج أكثر ينال أجرا أعلى) إلى مجتمع أخر (أي الشيوعي) يتقاضى فيه كل فرد حسب حاجاته.
فالشيوعية إذن هي عودة للمجتمع البدائي ولكن بشكل أرقى، لان ما يميز "الشيوعية البدائية" هو أن جميع الناس يشاركون في العملية الإنتاجية، أدوات العمل
الفردية تعتبر ملكية خاصة، لكن ما يستعمل جماعيا تملكه الجماعة.
النظام الرأسمالي: يتسم هذا النظام بالخصائص
الاقتصادية التالية:
·سيطرة القطاع الخاص على وسائل
الإنتاج الاقتصادي.
·اكتساب الثروة والمواد الأولية
عن طريق عمليات السوق الحرة
·بيع وشراء قوة العمل في السوق
الحرة.
·يهدف النشاط الاقتصادي فيه إلى الحصول على أكبر كمية من الأرباح
بلغة أخرى، عندما نقول أن مجتمعا ما هو مجتمعا رأسماليا، معناه أن الرأسمال
المالي والتكنولوجي يمثل المصدر الأساسي للسلطة وتنظيم المجتمع، أن قانون الربح الاقصى
هو الذي يحرك الناس في هذا المجتمع، أن الحساب الرشيد لمردودية التوظيفات يمثل الشكل
الأمثل لأنشطة أصحاب المشاريع، وأن العمل المأجور هو النموذج العام للعلاقات السائدة
بين الأشخاص داخل العملية لإنتاجية.
نمط الإنتاج: هو الطريقة التي ينتج بها
الناس، في مجتمع معين، الوسائل المادية لبقائهم على قيد الحياة. ويشمل نمط الإنتاج : وسائل الإنتاج، القوى المنتجة، علاقات الإنتاج، البينة التحتية
والبنية الفوقية لمجتمع ما في حقبة تاريخية محددة. بلغة أخرى، فتمط الإنتاج هو ذلك
المجموع المكون من نوعية التقنيات المستعملة في الإنتاج والعلاقات الناجمة عنها.
لفرز نمط الإنتاج يعتمد ما يلي:
أولا: مستوى تطور القوى المنتجة وتقنيات ووسائل العمل. فماركس يعطي أهمية كبرى لأدوات الإنتاج لأن هذه الأخيرة هي
مقياس الحكم على مستوى قوى الإنتاج، كما أنها هي التي تحدد مدى تأثير الإنسان في الطبيعة. فالأدوات التي تصنع بها المنتوجات والأسلوب الذي تصنع به
هي التي تمكننا من التمييز بين المراحل الاقتصادية المختلفة، وليست تلك المنتوجات ذاتها. فأدوات العمل لا تبين لنا مستوى درجة التطور التي بلغها العمل
البشري فحسب، وإنما هي أيضا مؤشرات للظروف الاجتماعية التي يجري في ظلها العمل. ويضيف بهذا الصدد أن الطاحونة اليدوية أنتجت المجتمع الإقطاعي
أما الطاحونة البخارية فقد أنتجت المجتمع الرأسمالي. بلغة أخرى فأدوات الإنتاج عندما تتحول، تتحول معها العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، حيث
يترتب عن كل مستوى معين من التقدم التقني وضغية اجتماعية معينة.
فاستخدام الآلة مثلا في الزراعة عملية ذات طبيعة رأسمالية أي أنها تؤدي إلى
نشوء وتطور العلاقات الرأسمالية. لأن انتشار استخدام الآلات
الزراعية والأدوات المتطورة يرتبط ارتباطا وثيقا بتجريد الفلاحين من ملكيتهم وأدواتهم. فالآلات تنشئ سوقا داخلية للرأسمالية بطريقتين: أولا : تؤسس سوقا لوسائل الإنتاج، ثانيا: تؤسس سوقا لليد العاملة، لأن إدخال الآلات يؤدي إلى استبدال
"العمل–الخدمة" بالعمل المأجور، و حتما إلى قيام مزارع فلاحية تستخدم العمال. هكذا فإنتاج الحبوب للتسويق المباشر يؤدي إلى التمايز بين
الفلاحين، كما أن التحولات في تربية الماشية من التربية من أجل الاستهلاك
المباشر أي لتلبية الحاجة الشخصية المباشرة إلى التربية من أجل استخراج وبيع الحليب
ومشتقاته يؤدي مثلا إلى صناعة الزبدة والأجبان، التي تؤدي بدورها إلى نمو مراكز مدينية
تقوم بربط قرى وتجمعات المزارعين بالسوق. وهنا يلعب السماسرة دورهم التقليدي في شراء المنتوج ونقله للمدن، لتزداد بدلك
تبعية الفلاح والمزارع للرأسمالي في المدينة الذي يبدأ في فرض شروطه على نوعية الإنتاج...إلخ.
ثانيا: الطريقة النوعية للربط والتوحيد بين وسائل الإنتاج والمنتجين
المباشرين (عمال وفلاحين).فملكية وسائل الإنتاج والتبادل،
في نظر ماركس، ليست سوى ساعات العمل المجانية (فائض القيمة) التي استولى عليها ويستولي عليها كل يوم أرباب العمل. ومن هنا فالنظام الذي تسيطر فيه الملكية الخاصة (النظام الرأسمالي مثلا) هو نظام ملغوم بتناقص صارخ بين الطابع الاجتماعي للإنتاج
الذي هو حصيلة العمل اليدوي والذهني لملايين العمال المأجورين، والطابع الخاص لتملك
منتوج هذا الإنتاج الذي تسيطر عليه أقلية من المالكين.
ثالثا: الأسلوب النوعي لانتزاع فائض القيمة: يؤكد الماركسيون أن ما يميز النظام الرأسمالي هو عملية الفصل
بين السياسي والاقتصادي لأن انتزاع الفائض الاقتصادي يتم عادة بوسائل "اقتصادية"
أي عبر آليات السوق
الحرة ودون تدخل سياسي مباشر ومكشوف. ولهذا السبب يبدو نضال التنظيمات العمالية من أجل المكاسب الإقتصادية الخالصة
دون "التدخل في السياسة" أو دون العمل على تهديد المستوى السياسي بأكمله ممكنا "ومعقولا"
"ومقبولا" في الرأسمالية المتقدمة. أما أنماط الإنتاج قبل الرأسمالية (عبودية، إقطاعية، نمط الإنتاج الأسيوي، نمط الإنتاج الخارجي...الخ) لم تكن تعرف هذا الفصل بين
الاقتصادي من جهة، والسياسي-الإيديولوجي من جهة ثانية،
لأن انتزاع الفائض كان يتم فيها بوسائل "غير اقتصادية"، أي كان يتم عبر التدخل المباشر للمستويين السياسي والإيديولوجي
بكل عنفهما المباشر والمكشوف.
وبالتالي يؤكد الماركسيون أن أية مقاومة فلاحية "سياسية"
في المجتمع الإقطاعي
(الفيودالي) مثلا، لا يمكن أن تكون إلا مقاومة اقتصادية في الوقت ذاته،
لأن الوظيفة المباشرة للمستوى السياسي هنا، هي الانتزاع الصريح للفائض الاقتصادي من
المنتجين المباشرين لا أكثر.
عموما فنمط الإنتاج
هو مفهوم أنتجه ماركس لتشخيص كيفية تمفصل articulation المستوى الاقتصادي
والسياسي والإيديولوجي كلحظات أساسية للبنية الاجتماعية، والتي تعطينا في التحليل الأخير
أسلوب خاص من الإنتاج له علاقات قانونية سياسية واجتماعية توافقه.
وسائل الإنتاج: هي مجموع الوسائل التي تتيح للعامل تحقيق المنتوج مثل الأرض،
الرأسمال، الآلات، المباني، الموارد الأولية...الخ، وقد كان العبيد في عداد وسائل الإنتاج. والرأسمالية،
باعتبارها الوريثة الشرعية لسادة العبيد، يقول
ماركس، اختزلت اليوم العامل إلى مجرد ملحق بأداة العمل أي إلى مجرد وسيلة إنتاج لا
أكثر. وباختصار فوسائل الإنتاج هي
مادة العمل + وسائل العمل.
قوى الإنتاج (القوى المنتجة) : تمثل مجموع عوامل الإنتاج من تجهيزات (بنايات، طرق، وسائل
نقل، سكة حديدية ... إلخ)، موارد طبيعية، الطاقة واليد العاملة. أي، إضافة إلى المنتجين المباشرين (عمال وفلاحين) فهي تضم أدوات العمل وموضوعاته، شكل العمل وتنظيمه، تطور العلوم والتكنولوجيا...الخ. بلغة أخرى فقوى الإنتاج تشمل
أدوات ووسائل الإنتاج، تقنيات وطرق العمل (التقسيم التقني للعمل+شكل تنظيم العمل)، العمال الذين يستخدمون أدوات الإنتاج، إضافة إلى مهارة
العمال التقنية وخبرتهم ووعيهم الطبقي (أي الوعي بضرورة القضاء على العمل المأجور)، لأن ماركس يقول أنه "لا وجود لأجرة عادلة ليوم عمل عادل، لأن العمل المأجور نفسه
ظلم مجسد والأجرة نفسها ذل والبروليتاريا تحتاج إلى كبريائها أكتر مما تحتاج إلى خبزها".طبعا إن مفهوم قوى الإنتاج عند ماركس ليس مفهوما كميا محضا،
بل يحمل أيضا بعدا كيفيا أساسيا، يتخطى مجرد
قياس حجم طاقاتها الإنتاجية ليتناول أيضا طبيعة الطرق والأساليب المعتمدة لضمان عملية
الإنتاج وتأمين استمراريتها على مستوى معين من العطاء.
فقوى الإنتاج إضافة إلى كونها من أكثر العناصر حركة وتغيرا،
فهي العنصر الحاسم في أسلوب الإنتاج، إذ تتولد
عنها علاقة ملكية وسائل الإنتاج.
علاقات الإنتاج :
نوعية العلاقات التي
يفرضها مالكو وسائل الإنتاج (سادة العبيد، سادة الأرض،
سادة رأس المال) على المنتجين المباشرين (العبيد، الأقنان، العمال) وهي ما نسميه "علاقات الإنتاج الاستعبادية"
(العبودية) الإقطاعية (الفيودالية) والرأسمالية. فالذي يحدد نوعية علاقات الإنتاج السائدة في حقبة تاريخية
معينة هو معرفة الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج بالفعل. إذ المقصود هنا ليس الملكية الحقوقية بل الملكية الفعلية،
أي السيطرة الإقتصادية، وبالتالي السياسية المتمثلة أساسا في فرض تقسيم العمل وتوزيع
الإنتاج بين طبقات المجتمع. في نظر ماركس، فالطبقة التي
تفرض تقسيم العمل على المنتجين المباشرين وتوزيع ما أنتجوه على هواها هي الطبقة السائدة
عليهم.
بشكل دقيق، فعلاقات الإنتاج داخل مجتمع ما، يقصد بها
العناصر الثلاثة التالية:
·علاقات وأنظمة الملكية
·علاقات السلطة.
·طريقة توزيع الدخل الوطني.
البنية التحتية (البناء التحتي ) :
هي القاعدة الاقتصادية
للمجتمع،والتي تشمل مجموع القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. وبتعبير أدق فهي تشمل تقنيات الإنتاج، التقسيم التقني للعمل
وتنظيم العمل.
البنية الفوقية (البناء الفوقي): هي المؤسسات الدينية والسياسية والحقوقية كالدولة والأحزاب
والكنيسة، إضافة إلى كل أشكال الوعي الاجتماعي، التمثلات الجماعية والإيديولوجيات.
فهي تتضمن مجمل الأفكار السياسية والقانونية، النظريات الفلسفية والجمالية، الدين،
الفن، الأخلاق، التقاليد...إلخ.
المجتمع: يسميه ماركس ب "التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية" وهو البنى والعلاقات والمؤسسات القائمة باستقلال على إرادة
الفرد. فالمجتمع عند ماركس، يضم جميع عناصر البنية التحتية ومجموع عناصر البنية الفوقية.
المادة: في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي (ص 124)"، يشير لينين إلى أن المادة
هي "مقولة فلسفية تدل على الواقع
الموضوعي المعطى للإنسان في إحساساته التي تصوره، تنقله وتعكسه وهو موجود بصورة مستقلة
عنه"
من بين النقاط الرئيسية التي يمكن استنباطها من هذا التعريف يمكن الإشارة إلى:
·ضرورة التمييز بين مفهوم المادة كما يفهمه الفيلسوف،
و "بنية" المادة كما يفهمها العالم ويدرسها.
·إن المادة هي كل شيء، أو هي الواقع الموضوعي الموجود
خارج وعي الإنسان، والموجود بشكل مستقل عن ذلك الوعي.
·إن المادة في الوقت نفسه هي ذلك الواقع الموضوعي
الذي يتعرف عليه من قبل الإنسان عبر إحساساته ووعيه.
بناء على هذا التعريف يمكن القول بأن التصور المادي للكون والطبيعة والمجتمع
معناه التمييز بين عمليات الواقع وعمليات الفكر أي التمييز بين الوجود والمعرفة والتسليم:
·بأن ما يقع في الكون ليس سوى تعبيرا عن المادة في
تطورها، ذلك أن المادة هي الوجود الخارجي، وهي ليست في حاجة إلى ذات تخلقها.
·التسليم بوجود الطبيعة والأشياء الخارجية كلها وجودا
مستقلا عن الإنسان وإدراكه ومعرفته.
·التسليم بأن المادة هي الواقع الأول، وما الفكر والإحساس
إلا انعكاسا لهذا الواقع المادي. بعبارة أخرى، الإقرار بأسبقية الوجود المادي على
الوعي البشري. فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل على العكس إن وجودهم الاجتماعي هو الذي
وعيهم، إذ ليس وعي الناس هو الذي يحدد ظروف
معيشتهم المادية، بل إن ظروفهم المادية هي التي تحدد وعيهم.
الديالكتيك (الجدل) :
قال إنجلز "إن الديالكتيك هو علم القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة
والمجتمع الإنساني والفكر". فالديالكتيك الماركسي يعتبر
أن العالم متحرك باستمرار، متغير بشكل دائم ومتطور بشكل كامل. أي أن القانون الذي يحكم
هذا الكون بجوانبه المختلفة هو قانون الحركة والتغيير المستمرين. هذه الرؤية تذكرنا بالديالكتيك الهيرقليطي الذي يقول: "إنك لا تستحم في مياه النهر مرتين لأن مياه جديدة تغمرك من
جديد".
لكن كيف يدرك الديالكتيك الماركسي عملية
التطور؟ إنه يعتبر أن عملية التطور، الناتج
عن التناقضات الملازمة للظواهرو الاشياء، هي
حركة من الاسفل إلى الأعلى ومن البسيط إلى المعقد. انها عملية ثورية تتم في شكل قفزات
ولكن ليس على شكل دائرة مغلقة بل بشكل لولبي بحيث تكون كل لولبة أكثر عمقا، أكثر غنى،
وأكثر تعقيدا من سابقاتها.
فتطور العالم المادي هو عملية مستمرة من اضمحلال القديم وولاية الجديد. فكما تموت الخلايا
القديمة في الأجسام الحية لتعويضها خلايا جديدة، تزول في
المجتمع الأشكال الاجتماعية القديمة لتحل محلها أشكالا جديدة أكثر تقدمية، وبالتالي
فسمة الجديد الذي لا يقهر هي ما يميز الطبيعة والمجتمع والفكر حسب التصور الديالكتيكي.
القوانين الأساسية للديالكتيك:
القانون الأول هو التغيير الديالكتيكي: من يقول ديالكتيك يقول حركة وتغير. عندما نريد دراسة الأشياء
من وجهة نظر ديالكتيك، فإننا ندرسها في حركتها وفي تغيرها.
مثـــــــال التفـــــــاحة: لدينا وسيلتين لدراستها: من وجهة نظر غير ديالكتيكية ثم من وجهة نظر ديالكتيكية.
·من وجهة نظر غير
ديالكتيكية: نعطي وصفا دقيقا لهذه التفاحة،
شكلها، لونها، نرصد خصائصها، نتحدث عن ذوقها.... إلخ. بعد ذلك يمكن أن نقارن التفاحة
بالإجاصة، نرى التشابهات والاختلافات بينهما وأخيرا نستنتج: التفاحة هي تفاحة والإجاصة هي إجاصة. هذه المقاربة ترتكز على المنطق الصوري الذي يقوم على تفضيل
الجمود على الحركة ويعزل الأشياء والظواهر عن بعضها البعض واضعا حواجز وأسوار متعذرة
العبور بينهما. هذا المنطق )أي الصوري( يرتكزعلى ثلاث قواعد رئيسية كبيرة هي:
·مبدأ الهوية (le
principe d’identité) : التفاحة هي التفاحة.
·مبدأ عدم التناقض: le
principe de non-contradiction الحياة لا يمكن أن تكون حياة وموتا في آن واحد.
· مبدأ الثالث المرفوع أو طرد الحالة الثالثة le principe du tiers exclu:
يجب الاختيار بين
الموت والحياة ولا وجود لاحتمال ثالث.
·من وجهة نظر ديالكتيكية: ندرس التفاحة من وجهة نظر الحركة. لا يتعلق الأمر بحركة التفاحة عند تدحرجها وتنقلها ولكن بحركة
تطورها.هكذا يمكن أن نلاحظ أن التفاحة
الناضجة لم تكن كذلك، ففي البداية كانت برعما ثم زهرة، ثم تفاحة خضراء، ثم تفاحة ناضجة
ثم شجرة تفاح... إلخ. فالدراسة من وجهة نظر ديالكتيك هي دراسة من وجهة نظر الماضي
والمستقبل، هي اعتبار كل شيء مؤقتا، كشيء له تاريخ في الماضي ويجب أن يكون له تاريخ
في المستقبل.
بالمقابل، عندما نتفحص الزهرة التي تصير تفاحة، ثم التفاحة الخضراء التي ستصير
ناضجة، نلاحظ أن هذا التسلسل الداخلي الذي يدفع التفاحة في تطورها، يعمل تحت وطأة القوى
الداخلية المسماة بالدينامية الذاتية ، أي نتاج قوى تعتمل داخل الكائن
ذاته أي تتصارع داخل بنيته الداخلية.
فالحركة لكي تكون دياليكتيكية يجب أن تتضمن الصيرورة والدينامية الذاتية،لأنه
فليس كل حركة هي بالضرورة ديالكتيكية أو كل تغير هو بالضرورة ديالكتيكي.
فإذا أخذنا برغوتا لندرسه من وجهة نظر الديالكتيك، سنقول أنه لم يكن دائما على ما
هو عليه ولن يكون على ما هو عليه، فإذا سحقناه، سيكون هناك طبعا تغير بالنسبة له. ولكن هل سيكون هذا التغير دياليكتيكيا؟ كلا فبدوننا ، أي
بتدخل قوى خارجية غير منبعثة من ذات هذا البرغوث، لن يسحق أي لن يموت. هذا التغير ليس دياليكتيكا وإنما تغيرا ميكانيكيا.
القانون الثاني: الفعل المتبادل أو ترابط الصيرورات: إن دراسة حركية التفاحة سيقودنا إلى دراسة تطور النبات وهذا
سيقودنا إلى دراسة جودة ونوع التربة ثم إلى دراسة نوع الأسمدة الصالحة لتحسين مردودية
التربة ...إلخ. أي الانتقال من التربة إلى الشجرة ثم الأرض... إلخ . لدينا ما يسمى بترابط الصيرورات
أوقانون"الفعل المتبادل الذي يفرض النظر إلى تطور الأشياء وكأنها لم تبلغ المشهد
النهائي أبدا. فالطبيعة والمجتمع، يجب أن
ينظر إليهما كترابط للصيرورات، وأن المحرك الذي يعمل على نمو هذا الترابط هو الدينامية
الذاتية.
مثلا: 1- هذه تفاحة 2- تفاحة بتحليلها تولد شجرة أو أشجارا،
3- ليس كل شجرة تعطي تفاحة بل
تفاحا. إذن لا نعود أبدا إلى نقطة
الانطلاق نفسها. نعود إلى التفاحة ولكن على
مستوى آخر، لأن الأشياء تتطور في شكل سيرورة
دائرية، لكنها لا تعود أبدا إلى نقطة الانطلاق، بل تعود قليلا إلى الأعلى وعلى مستوى
آخر وهكذا دواليك. مما يعطي لحركتها شكلا حلزونيا
صاعدا. باختصار، الطبيعة والفكر والمجتمع يتطورون تطورا حلزونيا وما يحرك هذا التطور
هو الدينامية الذاتية للأشياء والظواهر.
فمفهوم الفعل المتبادل أو الارتباط الشامل يعني أنه لا يكفي القول بأن العالم
يتطور، بل يجب التأكيد على أنه يشكل كلا واحدا ومتلازما، وأن عناصره لا تتطور بصورة منعزلة، بل هي على اتصال مع بعضها
البعض، وتؤثر على بعضها بصورة متبادلة، لأن الارتباط الشامل للظواهر وترابطها الداخلي
هي إحدى سمات العالم المادي.
القانون الثالث: وحدة وصراع الأضداد:
·وحدة الأضداد: أي تلك الاتجاهات والقوى المتنافرة
الموجودة في صلب شيء ما، المترابطة داخليا بحيث أن وجود كل وحدة منها مرهون بوجود الوحدة
الأخرى المضادة لها. فكل شيء هو وحدة الأضداد،هو
ذاته وضده في الآن نفسه.
مثلا وحدة العلم والجهل: ليس من جهل بدون علم وليس
هناك جهل مطلقا. فالفرد مهما كان جهله يستطيع
معرفة أشياء معينة في الحياة العامة.
مثلا وحدة الموت والحياة: الحياة غير ممكنة
في الأجسام الحية لولا التجدد الدائم للخلايا التي تموت بخلايا أخرى تولد.
مثال آخر: في المجتمع العبودي لا يمكن
وجود طبقة العبيد بدون وجود طبقة مالكي العبيد، في المجتمع الإقطاعي لا يمكن وجود القن
بدون وجود الإقطاعي، في المجتمع الرأسمالي
لا يمكن وجود البورجوازي بدون البروليتاري.
·صراع الأضداد: يشير إلى استحالة إمكانية
تعايش المظاهر المتناقضة بصورة سلمية في الموضوع الواحد نفسه، إذ أن طبيعة الأضداد
المتناقضة تفرض بالضرورة صراعا بينها. هكذا فالقديم الذي يموت يتصارع مع الجديد الذي يولد. فتوازن الأضداد إذن هو دائما نسبيا، ولا يمكن أن يكون غير
ذلك. فلو كان سرمديا، لما تطور
العالم أبدا، والصراع هو مصدر التطور الوحيد، إنه هو قوته المحركة.
بالمقابل، فعندما نتحدث عن التناقض في المجتمع الرأسمالي
مثلا: فهذا لا يعني أن الصراع هو
تجريدي خالص، أي أن البعض يقول نعم لهذا النظام والآخر يقول لا لهذا النظام على المستوى
التنظيري، بل يعني أن هناك تناقضا في الوقائع. معنى ذلك، أن هناك
قوى واقعية تتحارب وتتصارع: قوى تحاول إعادة إنتاج نفسها،
تحاول تدعيم وإبادة مصالحها وامتيازاتها الطبقية (الطبقة البورجوازية)، وقوى اجتماعية أخرى تطمح إلى نفي البورجوازية والقضاء على
مصالحها (الطبقة البروليتارية).
·فوحدة صراع الأضداد التي تميز
الطبيعة، الفكر والمجتمع تجعل التاريخ البشري يخضع في تطوره للثلاثية التالية:
·الأطروحة 2- نفي الأطروحة (النقيض) 3- نفي النفي (التوليف أو التركيب)
·فالإقطاعية كانت نفيا للرق.
·الرأسمالية هي نفي الإقطاعية.
·الاشتراكية هي نفي للرأسمالية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه عندما نفسر أو نطبق وحدة الأضداد
او نفي النفي على شيء ما أو ظاهرة ما، علينا أن نتجنب تطبيقه الآلي أو إيجاده في كل
مكان، لأن معارفنا محدودة جدا ومن الممكن، يقول رواد المنهج الديالكتيكي، أن يؤدي بنا إلى مزالق كثيرة.
القانون الرابع: قانون تحول التغيرات الكمية
إلى تغيرات كيفية: مثال: إذا قمنا بتسخين الماء (الذي هو سائل) إلى درجة تتجاوز المائة ستتغير بالضرورة
كيفيته، أي سيتحول بالضرورة إلى بخار. وللبخار خصائص تختلف عن خصائص الماء. بالمقابل إذا قمنا بتسخينه إلى ما تحت
الدرجة صفر سيتحول بالضرورة إلى ثلج. وللثلج، بالطبع، خصائصا نوعية تختلف عن خصائص الماء.
إذا انتقلنا من الطبيعة إلى المجتمع يمكن أن نلاحظ أيضا أن الانتقال من النظام
الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي (يتعلق الأمر بتغيير كيفي) يفترض بالضرورة تغيرات كمية مثل: تطور القوى المنتجة، توسع القاعدة الاجتماعية للبروليتاريا
الثورية أي ازديادها العددي والنوعي... إلخ. بالمقابل فكل تغير نوعي يؤدي
بدوره إلى تغيرات كمية. فالتغير النوعي الجدري في
النظام الاجتماعي أي استبدال الرأسمالية بالاشتراكية،سيؤدي حتما إلى تغيرات كبيرة في
المؤشرات الكمية: نمو الإنتاج الزراعي والصناعي،
الرفع من الأجور، الرفع من مستوى استهلاك الأسر، ارتفاع الدخل الوطني ... إلخ.
نشير هنا إلى أنه بالرغم من كثافة الأمثلة المستقاة من الطبيعة التي رصدناها
هنا لشرح قوانين الديالكتيك، فمن الضروري أن نستحضر، أولا وقبل كل شيء ونحن نتحدث عن هذه القوانين، الظواهر
الاجتماعية وليس الظواهر الطبيعية.فالديالكتيك هو منهج يسمح
بتحليل العلاقات التناقضية بين القوى الاجتماعية في فترة تاريخية محددة، لتحديد الاتجاه
التاريخي المحدد الذي ستسلكه هذه العلاقات. فلتحليل واقع موضوعي محدد ديالكتيكيا يجب أن نحلل ملامحه
وعناصره المتناقضة أولا، ثم نحلل هذه العناصر في وحدتها وفي حركتها ثانيا.
الايديولوجيا: عندما نستعرض نصوص ماركس
المتعلقة بالأيديولوجيا، نلاحظ أنه غالبا ما يستعمل هذا اللفظ بطريقة جدالية، أي كأداة
اتهامية وسجالية ضد خصومه. ففي كتابه "'الايديولوجية الألمانية" يحمل مفهوم الايديولوجية دلالة سلبية، لأن نقده كان يتجه
نحو تلك النظريات الاجتماعية والسياسية والفلسفية التي تتصور الأفكار والمنظومات الفكرية
كركائز عميقة للتقدم البشري. أي تلك النظريات التي تنتمي
إلى ما يسمى "بالمثالية التاريخية" التي كان ماركس يعارضها بماديته التاريخية مؤكدا أن التحولات النظرية لتأويلات العالم ليست
هي التي تشكل الأرضية الحاسمة للصراعات الاجتماعية التي ينتظم بها مصير التقدم الإنساني،
بل التحول العملي للظروف المادية للحياة والأنشطة الملموسة للمنتجين. فماركس يدعو إلى التسلح بمنهج نشوئيا تفكيكيا لنقد الأيديولوجيات
يقوم على البحث الدائم عن مصدر الفكرة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يتميز
بالصراعات الطبقية. أي يقوم على إرجاع منظومة
الفكر إلى المصالح الاجتماعية الواعية أو اللاواعية التي تعبرعنها ، لان علاقاتنا
الاجتماعية تدرك وتعاش ملونة، مؤولة ومبتعدة عن ذاتها.
فإضافة إلى الاستعمال الجدلي والسجالي لمفهوم الإيديولوجية عند ماركس، يلاحظ
قارؤوه، أن هذا الأخير لم يعطيه معنى واحدا. فجورج غورفيتش مثلا، رصد في كتابه "دراسات في الطبقات الاجتماعية
ص50-54"
ثلاثة عشر معنى، نذكر منها أربع معاني مختلفة:
·التخيلات الجماعية أو الأوهام،
والتصورات الكاذبة غير الواعية التي يرسمها الناس والجماعات والطبقات
عن أنفسهم، عن خصومهم وعن المجموعات التي يشتركون فيها والأوضاع الاجتماعية التي يوجدون
فيها. وقد تقترن هذه التخيلات بالوعي
الطبقي أو تندمج بصورة أوسع بالعقلية التي
تتميز بها طبقة ما.
·عندما تكون هذه التخيلات أو
الأوهام واعية أو شبه واعية، لا تعمل إلا على إخفاء حقيقة سلوك، عقلية، آراء،
قيم الطبقات المتصارعة.
·مجموعة من العلامات والرموز
التي تميز طبقة اجتماعية معينة، والتي تعبر عن مطامحها، متاعبها، وأمانيها.
·ظاهرة الانحراف الفكري، أو
على الأقل التفسير الخاطئ الذي تروجه طبقة اجتماعية معينة عن الدور الحقيقي الذي تلتزم
القيام به.
ولكي يخرج ماركس من هذه المتاهة، يقول غورفيتش،سيفترض بأنه من غير المنطقي المقارنة
بين الإيديولوجية البروليتارية وباقي الإيديولوجيات، لأنها إيديولوجية ممتازة تسعى
إلى تغيير العالم، إنهاء وجود الطبقات وبالتالي الإيديولوجيات نفسها. وهي بهذا تختلط بالنظرية الماركسية نفسها.
عموما إذا كان التحليل الماركسي للإيديولوجيا ليس واحدا، فتعدد معانيها لا يمنعنا
من التمييز بين معنيين أساسيين:
المعنى الأول: هو معنى قدحي مفاده أن الإيديولوجية هي الفكر غير المطابق
للواقع، هي الوعي الزائف بالواقع، هي نظام فكري يحجب الواقع، هي التأويل الخاطئ غير
العلمي للواقع.
المعنى الثاني: هو أكثر نضجا مؤداه أن الإيديولوجية
هي طبيعة الوعي الاجتماعي لدى طبقة اجتماعية معينة في فترة تاريخية محددة. هذا يعني أنها تتضمن الوعي الزائف أو الخاطئ كما تتضمن الوعي
الحقيقي. بلغة أخرى يمكن أن تكون أداة
استيلاب وضياع، كما يمكن أن تكون أداة تحرر وانعتاق. بهذا المعنى، فهي
تشير إلى البنية الفوقية التي تعبر عن مستوى البنية التحتية لمجتمع من المجتمعات أي
درجة تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. بهذا الصدد لا بد أن نشير إلى أن العلاقة بين البنيتين ليست علاقة انعكاس
آلي للإيديولوجيا تجاه البناء التحتي لسببين:
أولا:أن عناصر البنية الفوقية لا
تتطور بنفس السرعة التي يتم بها التطور على مستوى البنية التحتية، لهذا يمكن أن نلاحظ
مثلا التطور الكبير للبنيات التحتية في المجتمعات العربية والتخلف الكبير لبنياتها
الفوقية (في السعودية مثلا التي يصل
فيها متوسط الدخل الفردي إلى 210000 DH لا يحق للمرأة فيها أن تقود
سيارة). فالمنتجات الثقافية قادرة
على الانتقال بعيدا في المكان والزمان عن مصدرها الأول وعلى الفعل والتأثير في بيئات
وثقافات غربية عن ذلك المصدر وبعيدة كثيرة عنه. هذه المرونة هي التي تسمح للثقافة بأن تتخلف أحيانا عن إيقاع
نمو البنية التحتية وأن تستبق ذلك النمو بمراحل في أحيان أخرى. كما أنها هي التي تسمح لمجتمعات متخلفة إنتاجيا واقتصاديا
مقارنة بمحيطها وجيرانها أن تكون أرقى ثقافيا وعلميا من المجتمعات المجاورة.
ثانيا: إذا كان النظام القانوني والحقوقي
والتشريعي (أي البنية الفوقية) في أي مجتمع يتمتع باستقلال نسبي كبير عن الواقع الاجتماعي
الاقتصادي الذي يحمله، وأنه يشكل غالبا القطاع الأكثر ميلا إلى المحافظة ومقاومة
التجديد والتغيير، فيمكنه (أي القطاع القانوني والتشريعي) بالمقابل أن يقوم أحيانا بدور تقدمي كبير في المجتمع وأن
يشكل أداة فاعلة وهامة في استكمال التحولات المطلوبة في الكل الاجتماعي بما ينسجم مع
تطور قوى إنتاجه وحركة بنيته التحتية عموما. لذلك يعتقد الماركسيون أن الدفاع عن التشريعات التي يكرسها
المجتمع البورجوازي الناضج حول الحرية والديمقراطية، المساواة وحقوق الإنسان ودفعها
إلى نتائجها القصوى والمطالبة بتعميمها حقا، يؤدي بالضرورة إلى زوال أنظمة التفاوت الاجتماعي،
السيطرة الطبقية والتحكم النخبوي ... الخ.
في هذا السياق لا يمكن أن نتحدث عن الإيديولوجيا دون أن نستحضر وجهة نظر أحد
المفكرين الذين ساهموا في تجديد الفكر الماركسي من خلال إعطائه نفسا تحليليا جديدا
لإشكالية العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية. يتعلق الأمر هنا بأنطونيو غرامشي Antonio gramsci.
إذا كان المجتمع (التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية) ينقسم عند ماركس إلى بنية تحتية وبنية فوقية، فهذه الأخيرة
(أي البنية الفوقية) تنقسم عند أنطونيو غرامشي إلى:
· مجتمــع سيـــاســي مكون من مؤسسات عامة وأجهزة
إكراه (الجيش، المحاكم، بيروقراطية
الدولة)، أي ما يسمى عادة بأجهزة
الدولة التي تقوم بوظيفة السيطرة والإكراه.
·مجتمـــع مدنـــي مكون من مجموع المؤسسات الخاصة
(الكنيسة، المدارس، الحزاب
السياسية)، أي أجهزة الهيمنة الثقافية
والإيديولوجية. إذن وظيفة المجتمع المدني
ليست السيطرة la
domination بل الهيمنة
l’hégémonie.
في نظر غرامشي لا يمكن أن تنجح طبقة
اجتماعية في فرض سيادتها على سائر الطبقات الأخرى إلا إذا تمكنت من تحويل سيطرتها المادية
إلى مستوى الهيمنة الثقافية والإيديولوجية. فالإيديولوجيا السائدة في المجتمع ليست سوى إيديولوجية الطبقة
السائدة، ذلك أن الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج المادية، تملك في نفس الوقت وسائل
الإنتاج الإيديولوجي، وتأثير الطبقة السائدة على الطبقات المسودة لا يتم بشكل مباشر
أي على مستوى السيطرة، وإنما بواسطة مثقفيها وما يقومون به من وظائف لتحقيق
الهيمنة.
إذن فمحور الصراع هو من الذي سيهيمن ثقافيا وإيديولوجيا؟ هذا لا يعني أن غرامشي
ينفي ضرورة السيطرة المادية والاقتصادية وإنما
يريد فقط أن يؤكد أنه لا يكفي الاستيلاء
على جهاز الدولة وأجهزة الإنتاج للقضاء على سيطرة طبقية معينة، لأن جهاز الدولة هذا
لا يشكل إلا جزءا من الوسائل التي ترتكز عليها الطبقة السائدة لضمان استمرارية سيادتها. فدور أجهزة الهيمنة
الثقافية- الإيديولوجية- أي مجموع الوسائل أو المؤسسات التي تتمكن بواسطتها
الطبقة السائدة من إنتاج ونشر وتوزيع إيديولوجيتها في مختلف الأوساط الطبقات الأخرى،
وبالتالي التأثير فيها كالصحافة بما يرتبط بها مباشرة من دور النشر والكتب والمجلات
والدين ووسائل أخرى كالمدارس والجمعيات الثقافية والنقابات والأحزاب السياسية ومختلف
المنظمات- يبدو مهما
كذلك.
هذه الهيمنة الثقافية- الإيديولوجية تتحقق بواسطة
ما يسميه غرامشي بالمثقف العضوي، وهو الأداة الاجتماعية لهذه الهيمنة،
والذي يرتبط عضويا بالطبقة الاجتماعية الصاعدة أي التي في طريقها إلى السيادة، عكس
المثقف التقليدي الذي يرتبط بطبقة تنتمي إلى نمط إنتاج زائل أو في طريقه
إلى الزوال.
في هدا السياق يمكن أن نشير إلى أن
غرامشي يعتبر أن الحزب هو المثقف العضوي الجماعي، إنه الجهاز الأمثل
الذي يجسد عمليا مفهوم المثقف العضوي، والذي يربط المثقف أكثر من أي تنظيم آخر، وبصفة
عضوية، بطبقة اجتماعية معينة، هو المنظم لطبقة اجتماعية ما، والمعبر عنها، إنه الممثل
الحقيقي لها. بلغة أخرى الحزب هو التنظيم
الطبقي الذي يسعى إلى ممارسة الهيمنة الثقافية والإيديولوجية وبالتالي الاستيلاء على
السلطة.
فالهيمنة عند غرامشي هي السيطرة التي يتم التوصل إليها
بالموافقة أكثر من القوة من قبل طبقة اجتماعية على باقي الطبقات. فهي تشير إلى "الولاء العفوي" الذي تحصل عليه طبقة (أو فئة اجتماعية) مسيطرة من الجماهير بفضل هيبتها الاجتماعية والثقافية وبفضل
تفوقها المفترض وظيفيا في عالم الإنتاج. ويعتمد تطور الهيمنة بالضرورة على "مستوى الانسجام ووعي الذات والتنظيم" الذي تصل إليه طبقة اجتماعية معينة.
فالافتراض الأساسي الكامن وراء نظرة غرامشي للهيمنة "هو أن الطبقة العاملة، قبل وصولها إلى استيلام سلطة الدولة،
يجب أن تكون طبقة حاكمة في الحقول السياسية والثقافية و"السلوكية الأخلاقية" أي أن استيلاء البروليتاريا على السلطة ليس شرطا ضروريا
وسابقا للاشتراكية كما يعقد ماركس وانجلس.
بهذا يبقى تعبير "الهيمنة" مفيدا للإثارة إلى صيغة اجتماعية (أو مدنية) من دولة العمال القائمة على
الموافقة والتراضي، خلافا "لديكتاتورية البروليتاريا" القائمة على القوة، التي تكون هي الشكل السياسي للدولة.
عموما، في المنظور السوسيولوجي، فالإيديولوجيا ليست لها تلك الحمولة السلبية
وتلك الدلالة القدحية التي أعطتها لها المقاربة الماركسية حين اعتبرتها وعيا زائفا
عند الحديث عن تمثل الطبقات الاجتماعية لوضعيتها، أو تلك الحمولة الإيجابية عندما تحدثت
عن الإيديولوجيا البروليتارية.
فالسوسيولوجيا –كما يؤكد دلك Guy Rocher-تعتبر
أن الإيديولوجيا هي "نسقا من الأفكار والأحكام
الصريحة explicite
والمنظمة عموما، التي تستخدم لوصف تفسير، تأويل أو تبرير وضعية جماعة
أو مجموعة ما، والتي باستلهامها الواسع لمجموعة من القيم، تقترح توجها محددا ودقيقا
للفعل التاريخي لهذه الجماعة أو تلك المجموعة".
فمن بين الوظائف الأساسية للإيديولوجيا يمكن رصد:
·وظيفة الإدماج، التجمع، الحشد
والتعبئة: فالإيديولوجيا تؤسس وحدة الجماعة،
تعمق تماسكها الداخلي وتقوي إحساسها بهويتها الذاتية المتميزة. لهذا فالخطاب الإيديولوجي عادة ما يتميز بلهجته التعبوية
والتجييشية وبمصطلحاته الإنسانوية والأخلاقوية.
·وظيفة التبرير justification:
فالإيديولوجيا تعمل
دائما على تبرير أهداف ومثل جماعة ما. نشير هنا إلى أنه من الصعب غالبا تبرير إيديولوجية ما بواسطة دليل عقلي قاطع،
لأن الإيديولوجية هو غالبا نوع من الاكتساح العاطفي الجامح La saisie véhémente لقيمة ما كالحرية، المساواة، الرفاهية، النظام ... إلخ ومحاولة إقامة مجتمع ما على هذا الأساس.
·وظيفة التعيين désignation:
أي أن الإيديولوجيا
تقوم دائما بتعيين الأصدقاء/ الحلفاء / الطيبين...
إلخ. وتحديد الأعداء/ الخصوم / الخبثاء ...الخ.
·وظيفة الإخفاء: فماركس لامس ذلك حينما أعلن أن أفكار الطبقة السائدة تتحول
دائما إلى أفكار سائدة بفعل تقديم ذاتها كأفكار كونية وشمولية، لهذا تصبح المصالح الخاصة
بطبقة اجتماعية خاصة مصالح كونية وشمولية. فالإيديولوجية السائدة، يقول ماركس، لا هدف سوى صرف الملايين المنومة الوعي عن النظر
بعين صاحية لواقع حالها وإلهائها عن اكتشاف مشاكلها الفعلية بالمشاكل الزائفة، عن اكتشاف صانعي بؤسها. بلغة أخرى، فالإيديولوجية هي سلاح في صراع الطبقات، لأن إيديولوجيو
البرجوازية الذين يعتبرون أن مصالح البورجوازية هي مصالح جميع الطبقات الاجتماعية يحاولون
فرض رؤيتهم للعالم على المجتمع كله، محاولين إخفاء كل تناقضات
المجتمع الرأسمالي، وخاصة أشكال الاستيلاب المختلفة. فوظيفة التحليل النظري النقدي العلمي عند ماركس هو تحديدا
تبديد الوهم المسيطر على وعي البشر في المجتمع الرأسمالي والوعي الزائف المهيمن على
حياتهم ومؤسساتهم.
اليوطوبيا: هو أيضا مفهوم سجالي، ولذلك
يصعب استعماله بطريقة وصفية خالصة. ولكن بشكل عام يشير إلى نوع من الحلم الاجتماعي
الذي لا يهتم بالخطوات العملية التي يجب اتخاذها لبناء مجتمع جديد. بلغة أخرى فاليوطوبيا
هي تصور طريقة مغايرة للوجود الاجتماعي العام، هي الحلم بنمط آخر من الوجود
الأسري، بطريقة مخالفة لامتلاك الأشياء واستهلاك الخيرات، بكيفية مغايرة لتنظيم
الحياة السياسية، بشكل جديد للحياة الدينية ... إلخ، هذا التصور- يقول Paul Ricoeur- يظل عبارة عن حلم لأنه لا
يفكر عمليا وسياسيا في الدعامات والمرتكزات التي يمكن أن تخرج هذا التصور إلى الوجود،
أي أن هذا التصور عاجز عن تحديد الخطوة العملية الأولى التي ينبغي القيام بها في اتجاه
تحقيق هذا المشروع انطلاقا من الواقع الفعلي ذاته. بهذا فاليوتوبيا التي ترفض الواقع وتتشبث بواقع آخر مغاير
بشكل جذري، تعمل على تذويب الواقع لصالح التصورات التخطيطية المكتملة التي يكون
من الصعب غالبا تحققها.
فداخل اليوتوبيا- يضيف Paul
Ricoeur- يعتمل منطق جنوني يراهن على الكل
أو اللاشيء، منطق مخالف تماما لمنطق الممارسة الواقعي الذي يعرف دائما بأن ما يتمناه
الإنسان لا يطابق دائما ما يفعله. هذا المنطق الذي يدفع بالبعض
إلى الهروب من الواقع والحنين إلى نعيم مفقود والانغلاق الذاتي الكامل داخل الحلم بذلك
النعيم الأصلي الخالد، وهو المنطق ذاته الذي يذهب بالبعض أيضا إلى القتل الجنوني دون
تمييز.
بالمقابل لا بد من التأكيد على أن وحدة الظاهرة اليوتوبية لا تنتج بتاتا
عن مضمون اليوتوبيا ذاتها بقدر ما تنتج عن وظيفتها التي تظل دائما هي اقتراح مجتمع
بديل. فاليوتوبيات تقدم دائما مشاريع
متعارضة مع بعضها البعض، لأن ما تشترك فيه هو الحفر الدائم داخل النظام الاجتماعي بأشكاله
المختلفة، والبحث عن متنفس جديد. غير أن بدائل ذلك النظام الاجتماعية المحتملة كثيرة
ومتناقضة فيما بينها بالضرورة. وهكذا نجد مثلا تنوعا كبيرا
في اليوطوبيات المتعلقة بنظام الأسرة ابتداء من فرضية التعفف الرهباني إلى فرضية الاختلاط
الحر والمشاعة الجماعية والتهتك الجنسي.
ويمكن أن نلاحظ نفس التنوع فيما يخص اليوتوبيات المتعلقة بالمجال الاقتصادي،
ابتداء من التي تدافع بشدة عن التقشف الصارم
الدقيق إلى التي تشجع على الاستهلاك الضخم المبالغ فيه الذي يذهب إلى حد البذخ والتبذير. ولم يسلم المجال السياسي أيضا من هذا التنوع في اليوتوبيات
المتعارضة التي تمتد من اليوتوبيات الحالمة بأنظمة سياسية فوضوية أو استبدادية قد تكون
أفظع وأسوأ من الأنظمة التي تريد الإطاحة بها وتغيرها، إلى تلك التي تدعو إلى خلق نظام
إجتماعي متصور بطريقة هندسية دقيقة وملزم بشكل قهري لا يحتمل، وأخيرا على المستوى الديني
نجد اليوتوبيا موزعة بين نزعات ملحدة وبين الابتهاج الديني المتحمس الحالم إما بنزعة
دينية جديدة أو بقداسة بدائية قديمة.
فإذا كان ممكنا القول مع "كارل مانهايم" بأن عقلية ما تكون يوطوبية حينما تفقد ملاءمتها مع
واقع الأشياء التي تتكون فيه، فيجب علينا أن نضيف بسرعة بأن الظاهرة اليوطوبية تظهر
عبر ألوان وأشكال متعارضة تماما، ودلك راجع لكون المشروع اليوطوبي قد يكون مطلوبا من
طرف فئة محرومة من السلطة، أو مرفوضا من طرف فئة أخرى هي التي تهددها اليوطوبيا. فما هو يوطوبي يعتبره ممثلو النظام السياسي والاجتماعي
خطرا على هذا النظام أو أمر مستحيل التحقيق داخل أي نظام آخر.
فما ترفضه اليوتوبيا وتضعه موضع تساؤل في كل ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية
هو شكل تواجد السلطة والكيفية التي تمارس بها ذاتها عبره: سلطة أسرية ومنزلية، سلطة اقتصادية واجتماعية،
سلطة سياسية، سلطة ثقافية ودينية. ويمكن أن نقول بهذا الصدد
بأن كل يوطوبيا من اليوطوبيات المختلفة تشكل متغيرا من متغيرات الخيال الاجتماعي الفاعل
حول السلطة ذاتها. بهذا عرف "كارل مانهايم" اليوطوبيا في كتابه المشهور "الإيديولوجيا واليوطوبيا"
بأنها تباعد يحدث
بين الخيال الاجتماعي وبين الواقع، تباعد يشكل في ذاته خطرا على استقرار ذلك الواقع
واستمراره كما هو.
عموما نلاحظ أنه في اللحظة التي تولد فيها اليوطوبيا طاقات وقدرات هائلة على
التغير، تدعوا أيضا إلى إقامة أنظمة استبدادية مستقبلية قد تكون أفظع وأسوئ من الأنظمة
التي تريد الإطاحة بها وتغييرها. إن هذه المفارقة المحيرة والمقلقة
ترتبط بنقص أساسي مميز لما كان "كارل مانهايم" يسميه بالعقلية أو الذهنية اليوطوبية ويتجلى هذا النقص في
غياب كل تفكير ذي طابع عملي وسياسي في الدعامات والمرتكزات التي يمكن أن تجدها اليوطوبيا
داخل الواقع الفعلي ومؤسساته وداخل ما يسميه "المعتقد فيه" (le
croyable) المتواجد في
فترة محددة والممكن استثماره.
تقسيــــــــــم العمل: في الاقتصاد كما في السوسيولوجيا يشير مفهوم تقسيم العمل إلى توزيع مختلف الأنشطة
الإنتاجية بين مختلف المؤسسات وبين الفئات السوسيو-مهنية داخل مجتمع معين. فالتعارض بين الأعمال اليدوية والأعمال الذهنية، بين التكوين
العام والتكوين التقني، بين التكوين والشغل، التراتبية على مستوى وظائف التنفيذ أو
المراقبة، مستوى التجربة المرتبط بالسن، درجة التخصص أو التعدد الوظيفي Polyvalence، الأعمال
المعروفة باعتبارها نسائية أو رجولية ... إلخ كلها تعبير عن تقسيم العمل. نشير هنا إلى أن تقسيم العمل يحيل إلى مجموعة من المفاهيم المتمايزة والمتكاملة
في نفس الوقت: التقسيم الاجتماعي للعمل،
التقسيم التقني للعمل والتقسيم الدولي للعمل.
- التقسيم الاجتماعي للعمل: يشير إلى التخصص الوظيفي داخل مجتمع ما بين
الفئات السوسيومهنية والطبقات الاجتماعية.
- التقسيم الجنسي للعمل: هو التقسيم المؤسساتي أو الثقافي للأنشطة الإنتاجية
بين الذكور والإناث.
- التقسيم الدولي للعمل: هو تقسيم بمقتضاه يتخصص كل بلد، على المستوى
الدولي، في نشاط اقتصادي محدد. فهو يشير إلى أشكال التخصص، علاقات التبعية، السيطرة أو الاستغلال بين
الأمم.
- التقسيم التقني للعمل: يشير إلى تقسيم عملية إنتاجية معينة (إنتاج سلعة ما) داخل مقاولة ما إلى عدد من المراحل أو إلى عدد من العمليات
الجزئية بين عدد من الأفراد أو الجماعات المتخصصة. هذا التقسيم الدي يسميه ماركس "بالتقسيم المانيفاكتوري"، ينقسم بدوره
إلى "تقسيم اجتماعي" وإلى "تقسيم تقني للمهام". فالأول يشير إلى التراتبية، إلى البنية العمودية
الموجهة بعلاقات السيطرة، أما الثاني فيشير، بالمقابل، إلى التقسيم الأفقي لعملية ما في شكل مناصب
معينة بهاجس الفعالية التقنية.
نشير أيضا إلى ان التقسيم التقني للعمل يشير أحيانا إلى ذلك التقسيم المتشجرarborescent
للأنشطة الاقتصادية إلى ثلاث قطاعات هي القطاع الأول (الفلاحة) ، الثاني (الصناعة) ، والثالث (الخدمات) ، وبعد ذلك تقسيم هده القطاعات
بدورها إلى فروع مختلفة (الصناعة النسيجية – الكيميائية
– المعدنية ... إلخ).
المصادر الأساسية للماركسية :
Ø
الاشتراكية الطوباوية )التراث الاشتراكي الطوباوي
بشكل خاص):
تشير الاشتراكية الطوباوية إلى فكر الاشتراكيين الأوربيين الأوائل الذي عاشوا
في بداية القرن 19 ، والذين سبقوا ماركس وانجلس،
مثل Robert Owen(1837-
1771) في انجلترا، و Saint_simon
(1835-1760)، Charles Fourrier
(1837-1772) و Etienne
Cabet (1856- 1788) في فرنسا.
عرف هذا التيار، الذي كان متأثرا بالنزعة
الإنسانية وبالمسيحية الاجتماعية ومؤمنا بأهمية التقنية والتقدم في تحقيق السعادة الإنسانية،
نجاحا كبيرا إلى حدود سنة 1870، ليخفق بعد ذلك داخل الحركة
الاشتراكية، بعد المد الكبير الذي عرفه الفكر الماركسي آنذاك.
تتميز الاشتراكية الطوباوية بالرغبة في تأسيس جماعات مثالية بطرق مختلفة. بعضها يسعى لأن يكون محكوما بقواعد صارمة ، والبعض الآخر
يفضل الحرية والمرونة كمعايير للتفكير والسلوك. بعضها يسعى إلى إقامة جماعة تذوب الفرد
وتخنقه وبعضها يفسح المجال للحرية الفردية والمبادرات الخاصة.
لكن ما يميز الاشتراكية الطوباوية هو الطريقة التي تقترحها وتصادر بنجاعتها
في تغيير المجتمع. طريقة لا ترتكز على ثورة سياسية
أو حركة إصلاحية تقودها الدولة، بل على خلق مجتمع اشتراكي مضاد داخل النظام الرأسمالي،
عن طريق مبادرات المواطنين.
نشير هنا أنه إذا كانت عبارة "الاشتراكية الطوباوية"
قد استعملت سنة 1839 من طرف Jerome
Blanqui، فالبعض يعتقد أن إنجلس هو أول من
استعملها في كتابه "الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية
العلمية سنة 1880. فماركس وانجلس اعتبروا أن
اشتراكيتهم هي اشتراكية علمية وليست اشتراكية طوباوية المتهمة بكونها تفتقد للمنهج
وتغيب عنها الصرامة في تحليلها للنظام الرأسمالي.
بالتأكيد، فالاشتراكية الطوباوية تختلف عن الاشتراكيات الأخرى بمنهجها. فهي عموما لا تدعو للثورة، ولا تتق في مبادرات الدولة. فبغض النظر عن الاختلاف الذي يخترق مختلف توجهاتها، فهي (أي الاشتراكية الطوباوية) تجمع على الدعوة إلى خلق مجتمعات اشتراكية، بشكل سريع، في
مناطق صغيرة جدا، انطلاقا من مبادرات فردية
يكون المواطن هو صانعها، والجماعة (la communauté) هي الوعاء المحتضن لها. فاستمرارية هذه الجماعات الاشتراكية وقدرتها على البقاء والصمود
داخل النظام الرأسمالي، شكل التحدي الأساسي للاشتراكيين الطوباويين.
طوباوية الاشتراكيين تكمن أيضا في كونهم لم يميزوا بين الطبقات
الاجتماعية، لم يرشحوا هذه الطبقة أو تلك لقيادة خلق المجتمع الاشتراكي، وبالتالي كانوا
يسعوا إلى تعبئة وتجييش الجميع سواء كان فقيرا أو غنيا، مستغلا أو مستغلا.
Ø الفلسفة الألمانية الكلاسيكية (المنطق الهيجلي)
يؤكد هيجل (1831-1770) الذي حاول دراسة فكرة تطور
الروح نحو وعي الذات عبر مراحل التاريخ، أن مسيرة التاريخ عبارة عن مراحل لتقدم
الوعي لدى الروح، وأن الشرط الأول والأخير لحدوث أي قفزة في الوعي لدى الكائنات هي
امتلاك الروح للحرية. أي أن ماهية الروح تنتج من حريتها، لان الحرية تجعل الروح تتقدم
في مسار وعيها عبر التاريخ بخطين متوازيان الاتجاه والقوة وهما الموضوعية والذاتية
ومتلاقيان الهدف في نهايته وهو الوعي الكامل بالوحدة المطلقة للوجود. فالحقيقة تكتشف شيئا فشيئا من خلال النشوء البطيء في تاريخ
الفكر عبر صراع الذات مع نقيضها ومن ثم الاتحاد معا والبدء في مرحلة جديدة.
بلغة أخرى فإن التاريخ في نظر هيجل عبارة عن كل يتحرك حركة تصاعدية نامية، والقوة المحركة له هي الفكر. وهذا يعني أن العملية التاريخية تتألف من أعمال الإنسان،
وأن إرادة الإنسان ليست سوى تفكيره الذي يبدو بصورة عملية فيما يعمل. ولما كان التاريخ هو تاريخ العقل فإن العملية التاريخية في
صميمها عملية منطقية، والانتقال من عملية تاريخية إلى أخرى إلى أخرى هو انتقال
من مرحلة منطقية إلى أخرى في سياق الزمن. إذن، فالأحداث التاريخية لا تحدث صدفة، بل تخضع لحتمية منطقية يصبح فيها كل ما هو واقعي عقلي، وكل ما هو عقلي واقعي.
فهيجل جعل من الديالكتيك منهج فلسفته، ومفاده أن كل فكرة تنطوي على تناقض باطن. فمثلا: الوجود يعني إثبات وجود ونفي وجود آخر. فوجود التفاحة هو
إيجاب لوجود هذه الثمرة، ونفي لكونها أية ثمرة أخرى. ولهذا ينبغي أن تقول عن الموجود أنه موجود ولا موجود معا. ومعنى هذا أنه متغير، فالوجود: موضوع، و نفي وجود آخر، نقيض موضوع، والموجود المتغير: مركب موضوع. وهكذا تسير الحقيقة الواقعية من موضوع thèse، إلى
نقيض موضوع antithèse ثم إلى مركب الموضوع synthèse، ويستمر الأمر، فيصب مركب
الموضوع موضوعا ينفيه نقيض موضوع، ومن كليهما يتكون من جديد مركب موضوع وهكذا باستمرار.
فالديالكتيك هو إذن العملية التي تمكن من التطور ومن نضوج الحقيقة الواقعية.
فالديالكتيك يظهر في تطور الحياة والنظم: فبعض أشكال الحياة أو النظم ينطوي على تناقض باطن، لأنها محتوم عليها أن تتجنب
الغرض الذي من أجله وضعت- مثل العلاقة بين السيد والعبد[2]
- أو لأنه من المحتوم عليها أن تولد نزاعا باطنا بين أحوال مختلفة مهمة على السواء
من أجل تحقيق الغرض منها.
فالديالكتيك لدى هيجل إذن مركب من ثلاث أزمنة هي: الأطروحة- النقيض – التركيب. ففي مجال
الفكر فالديالكتيك هو تاريخ تناقضات الفكر التي يتجاوزها بالمرور من النفي إلى نفي
النفي، فالنفي هو دائما جزئيا. إن هذا التصور للتناقض لا
ينفي مبدأ التناقض، ولكن يفترض وجودا دائما للعلاقات بين المتعارضين: ما يستبعد يجب أيضا استيعابه باعتباره معارضا. فالديالكتيك ليس فقط مكونا لصيرورة الفكر،ولكن أيضا للواقع. فالوجود والفكر متشابهان. فكل شيء يتطور حسب هيجل في إطار وحدة التناقضات، وهذه الحركة
هي حياة الكل. كل الوقائع تتطور إذن عن طريق
هذه الصيرورة التي هي اشتغال االروح المطلق Esprit absolu في الدين، في الفن، في الفلسفة والتاريخ. معرفة هذه الصيرورة le devenir تعني الإمساك
المفاهيمي به من الداخل.
·
نقد ماركس لهيجل:
في مقدمة الطبعة الثانية "لرأس المال" ينتقد ماركس هيجل حول عملية التفكير. يقول ماركس "إن عملية التفكير عند هيجل- وهي عملية حيوية يقوم بها
الدماغ الإنساني- تتحول إلى ذات مستقلة وتعتبر خالقة العالم الواقعي، ويعتبر العالم
الواقعي مجرد الشكل الخارجي الظاهري (للفكرة)، أما بالنسبة لي فان الأمر
على العكس من ذلك، فالمثال ليس سوى العالم المادي منعكسا في الدماغ الإنساني ومتزحما
لأشكال الفكرة".
أما انجلز في مؤلفه «
dialectique de la nature »:
"إن المقولات الديالكتيكية غيبية الطابع عند هيجل (...(
لان الديالكتيك ليس إلا انعكاسا لأشكال حركة العالم الواقعي،
للطبيعة والتاريخ على السواء"، ويؤكد انجلز " ان دور هيجل الكبير يأتي من أنه قدم لأول مرة كل العالم الطبيعي
والتاريخي والروحي في شكل عملية، أي في حالة حركة مستمرة وتغير وتحول وتطور، محاولا
الكشف عن الترابط الداخلي لهذه الحركة و لهدا التطور. فالقوانين الديالكتيكية (قانون وحدة وصراع الأضداد، تحول الكم إلى الكيف، قانون نفي النفي) كلها بسطها هيجل بطريقته المثالية على أنها قوانين للفكر
وحده. إن الخطأ يكمن في أن هذه القوانين
لم تستنتج من الطبيعة والتاريخ، بل فرضت عليها من فوق على أنها قوانين للفكر.
إذا كان الديالكتيك الهيجلي مثاليا، فعند ماركس سيصبح ماديا، سيهتم بحركة المادة،
بالتناقضات السوسيو اقتصادية التي سيعتبرها محركا للتاريخ. فديالكتيك التاريخ هو نتاج للتناقضات بين الطبقات الاجتماعية،
نتاج الصراع بين مصالحهم المتناقضة. بلغة أخرى فماركس سيعارض الديالكتيك الهيجلي وسيلقيه على
قدميه بإدماجه الزمن الإنساني le temps humain في السيرورة الديالكتيكية. فماركس سيعتبر أن الشروط المادية لوجود الكائنات البشرية
(وخاصة علاقاتهم داخل علاقات
الإنتاج) هو ما يحدد وعيهم وليس العكس.
بلغة أخرى فالماركسية قلبت المنطق الهيجلي القائم على الثلاثية البسيطة (أطروحة-نقيض الطروحة- التركيب) معلنة بذلك فهمها وتصورها الجديد للتاريخ والواقع الاجتماعي. فماركس يقول إن أستاذه هيجل يقلب الأمور، ويجعل الإنسانية
تمشي على رأسها بتصوره المثالي للتاريخ، مما يفرض إعادة الأمور إلى نصابها، لأن الطبيعة
المادية هي الشيء الحقيقي. فمصدر الفكر هو إنسان مجهز
بجهاز مادي للتفكير هو المخ، وهو إنسان يعيش في المجتمع والطبيعة، ومن ثمة لا يمكن تصور فكر
دون وجود الإنسان ملموس. بهذه الطريقة أحدث ماركس قطيعة منهجية مع التصور المثالي للتاريخ
ومع الجدل المثالي الهيجلي، مشيدا المادية الجدلية التي تعد المقدمة الفلسفية الأساسية
لنظريته الاجتماعية. فماركس انتقد إعطاء هيجل الأولوية
للمجرد على العيني مستندا إلى تفسير واقعيو مادي لعملية التجريد.
نستحضر هنا النقد الشهير الذي وجهه
ماركس إلى مثالية هيجل في
"العائلة المقدسة"
متهما إياه بسخرية
لاذعة، يتنصيب تصور الفاكهة التجريدي القبلي مصدرا وجوديا حقيقيا للبرتقالة والتفاحة
والموزة التي نستمتع بأكلها، في حين أن العكس تماما هو الصحيح حيث يسمح لنا وجود التفاحة
والبرتقالة والموزة ... إلخ. باستخلاص فكرة "الفاكهة"
على العموم بواسطة
الاستقراء والتجريد والتعميم.
فالبحث الدائم عن مصدر الفكرة في الواقع (سياسي، اجتماعي اقتصادي، طبيعي وتاريخي) بدلا من العكس إضافة إلى تاكيد على النقد وأهميته على الدوام
وباستمرار التأكيد الدائم على أهمية البراكسيس المادي التحويلي في صناعة البشر والتاريخ. وأخيرا إحلال الجدر الإقتصادي الإنتاجي لظواهر مثل الاستغلال،
استيلاب إنسانية الإنسان، وثنية السلعة، الصراع الطبقي الاغتراب الخ. محل جذرها الإنسانوي اللاأخلاقي الأول تعتبر من العناصر الجامعة
لفكر ماركس .
·
خلاصــــــة عامة
يعتقد هيجل أن المعطى الأول le fait premier بالنسبة للفلسفة ليس القدر، الطاقة، انفعالات الشعوب، وبشكل
مواز، التدافع الغير المنظم للأحداث، بل روح l’esprit هذه الأحداث نفسها. هذا الروح هو الذي أنتجها لأنه هو الذي يقود الشعوب، فالروح في تغير
مستمر، تتطور عبر روح العصر أو روح شعب ما في هذه الفترة. فتطور الروح يفسر تقدم الحضارة.
فهيجل كان يظن أن تغيرات الروح هي التي تحدث التغيرات في المادة وأن الكون هو
الفكرة وقد سارت مادية. فالروح المطلق المولد للعالم الموضوعي هو عقل ومنطق، لان الشيء
الوحيد الواقعي في الكون هو الروح، وكل شيء هو جزء من سيرورة شاملة لتحقيق الفكرة الخالصة
التي تعتبر المحرك الأول للتاريخ. فالروح والكون هما في تغير أبدي، لكن التغيرات في الروح هي التي تحدد التغيرات
في المادة. مثلا المخترع لديه فكرة هو
يحقق فكرته وهذه الفكرة المجسدة هي التي تخلق تغيرات في المادة، بلغة أخرى يعتقد هيغل
أن التغيرات في الأفكار هي التي تحدد التغيرات في الأشياء.
ففعل التفكير لدى هيغل يتبع طريقا ثالوثيا، يذهب من الأطروحة إلى النقيض ثم
التركيب أي نفي النفي. وبهذا المعنى يكون هيغل ديالكتيكيا لكنه يخضع الديالكيتيك للمثالية، لأنه يعتقد أن
حركة الفكر التي يشخصها تحت إسم الفكرة هو صانع وخالق الواقع، هذا الواقع ليس سوى الشكل
المظهري والظاهري للفكرة.عكس هيغل يعتقد ماركس أن حركة
الفكر ليس سوى انعكاسا لحركة الواقع وقد انتقل ونقل إلى الذهن البشري.
Ø
الاقتصاد السياسي الكلاسيكي
(خاصة نظرية القيمة عند آدم
سميث ودافيد ريكاردو)
آدم سميث (1790 -1723) :في كتابه "أبحاث حول طبيعة وأسباب ثروة الأمم (1776)، بنى نظريته في "القيمة – العمل" على العناصر التالية:
أ- ميز سميث بين قيمة الاستعمال وقيمة التبادل:
القيمة الاستعمالية لشيء
ما، لبضاعة ما، تعني منفعتها بالنسبة للناس، تعني قدرتها على تلبية حاجة اجتماعية. فمفهوم المنفعة utilité يحيل إلى مفهوم الاستعمال
usage.
مثلا فالتفاحة والقلم
لا يستعملان بنفس الطريقة.
فالأولى تصلح للأكل والثاني يصلح للكتابة.
القيمة التبادلية لبضاعة
ما، لشيء ما، في المجتمعات التي تستعمل النقد، هي ثمنه النقدي في السوق. بلغة أخرى هي قيمته في السوق.
في هذا الإطار، أشار أدم سميث إلى ما
سماه ب "مفارقة القيمة" le
paradoxe de la valeur، أي
أن هناك بعض الخيرات (biens) مثل الهواء، التي لها منفعة
كبيرة دون أن يتم تبادلها كما هو شأن خيرات أخرى تقل منفعتها بالنسبة للناس (مثل الماس le diamant) ولكن لها قدرة كبيرة على شراء
كميات كبيرة من الخيرات من خلال تبادلها.
ب- أقر سميث في إطار محاولته تفسير سلوك أثمان السوق بأن العمل هو مقياس القيمة. لكنه ميز، من خلال
دراسته لعلاقة القيمة بالعمل، بين المجتمعات
البدائية والمجتمعات المتقدمة:
·
في المجتمعات البدائية التي
تغيب فيها الملكية الفردية والتراكم الرأسمالي تنبني قيمة السلعة على كمية
العمل المبذول في إنتاجها.
·
في المجتمعات المتقدمة: مقياس القيمة لا يمكن أن يعتمد على "كمية العمل المبذول" بما أن عناصر أخرى كالأرض والرأسمال تساهم في عملية الإنتاج. بذلك يعوض آدم سميث مفهوم "العمل المبذول" ب "العمل المطلوب" كمقياس مناسب للقيمة، لأن الأجور والأرباح والربح هي التي
تحدد القيمة. وبالتالي فالعمل يصلح كمقياس
للقيمة ولكن ليس مصدرا وحيدا لها.
ج- ميز آدم سميث بين الثمن الفعلي وهو ثمن يقاس بكمية
العمل والثمن الاسمي أو ثمن السوق وهو يقاس بكمية من النقود. فثمن السوق هو الثمن الذي تباع به السلع في فترة معينة. أما الثمن الطبيعي فهو الثمن المدفوع بناءا على المعدل
الطبيعي لمكوناته التي هي: الأجور، الريع والأرباح، وهي
مداخيل العمل الرأسمالي والأرض.
اعترف آدم سميث بإمكانية انزياح ثمن السوق عن الثمن الطبيعي، وأرجع ذلك لتفاعل
واقعة العرض والطلب. ففي كل سوق توجد كميات معروضة
وطالبون مقبلون عليها. وإذا ارتفع حجم الكميات المعروضة
دون أن يرافق بارتفاع في الطلب، فسيجد العارض نفسه مضطرا لتخفيض أسعاره. هذا التخفيض سيشجع الطلب على المنتوج المعروض وستتدخل قوى
المنافسة لجعل ثمن السوق ميالا إلى المساواة مع الثمن الطبيعي. بذلك سيميل السعر التجاري أو ثمن السوق إلى التطابق مع الثمن
الطبيعي. لكن التطابق الفعلي سيتحق
حينما تكون الكمية المنتجة مطابقة للطلب الفعلي، وهو الطلب الكفيل بجلب السلعة إلى
السوق.
فآدم سميث يقر بوجود قوى تلعب دورا أساسيا في إحداث التوازن التلقائي بين الإنتاج
والاستهلاك وبين عدد السكان وكميات المواد المعيشية سماها بـ "اليد الخفية" التي تنظم، توجه وتضبط العملية الإنتاجية
وتضمن انسجام عناصرها.
·
دافيد ريكاردو (1823 – 1772)
ركز ريكاردو من خلال كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة
1817" شأنه شأن آدم سميث على مفهومي
قيمة الاستعمال وقيمة التبادل. لكن تحليله انصب على دائرة
الإنتاج، لأن القيمة عنده تتحدد انطلاقا من الشروط التقنية للإنتاج. هكذا، قد اعتبر ريكاردو أن كمية العمل
المدمج وليس العمل المطلوب كما أكد ذلك آدم سميث، هي التي تحدد قيمة
البضاعة. فلقد تمكن ريكاردو من التمييز
بين العمل المبذول مباشرة والعمل المبذول بصفة مباشرة. فالعمل المباشر هو ما يدخل مباشرة في الإنتاج، أما العمل
غير المباشر فهو ما دمج من قبل في الأدوات والآلات.
فمفهوم العمل غير المباشر هو مفهوم مكن ريكاردو من تحليل مسألة الرأسمال والتركيز
على مفهوم الزمن في صياغة نظرية القيمة. ففي نظره هناك سببين لتغير القيمة النسبية للبضائع:
·
كمية العمل اللازم إنتاجها.
·
الوقت الذي يمر قبل أن تصل
منتوجات العمل إلى السوق. وكل ما يتعلق بالرأسمال الثابت (الآلات ...) ، يقول ريكاردو، تتحكم فيها
القاعدة الثانية.
بالتالي، فإذا كان هناك سلعتان، يقول ريكاردو، تبذل لإنتاجهما نفس الكمية من العمل، فإن ثمنهما سيختلف إذا كان
إنتاج الأولى يتطلب استعمالا طويلا في الزمن الرأسمالي قبل الحصول على الإنتاج.
· نظرية القيمة عند ماركس:
قبل أن نتعرف على نظرية القيمة عند كارل ماركس من الضروري أن نسلط الضوء على
أهم مفاهيمها:
الرأسمال الثابت: يشير إلى ذلك الجزء من النقود
الذي يخصص لشراء الآلات والأدوات والمواد الخام (أي وسائل الإنتاج). فوسائل الإنتاج لا يمكن أن تنقل إلى البضائع قيمة أكبر من
تلك التي تفقدها خلال عملية الإنتاج، لهذا تسمى بالرأسمال "الثابت".
الرأسمال المتغير: يرمز إلى قيمة قوة العمل،
أي ذلك الجزء من النقود الذي يخصصه الرأسمالي لشراء قوة عمل العمال، أي لشراء جهدهم
العضلي والعصبي والذهني، أي لشراء وقتهم وحياتهم نفسها. فإذا كانت وسائل الإنتاج لا تضيف أية قيمة جديدة للسلع/ البضائع، بل تفقد قيمتها مع مرور الوقت، فإن قوة العمل تضيف
قيمة جديدة من خلال العمل ذاته سماها ماركس "بفائض القيمة". لذلك فماركس يرى أن الرأسمال المتغير هو المصدر الأساسي للاستغلال، وللربح أيضا
وليس الرأسمال الثابت.
فائض القيمة: هو الفرق بين كمية العمل المبذولة
من طرف اليد العاملة وكمية العمل المؤدى عنها، والتي تبقى في حيازة الرأسمالي. بلغة أخرى هي: الفرق بين كمية القيمة التي يضيفها العامل للسلعة الأولية وقيمة قوة العمل الضرورية،
أي هو ذلك العمل الذي يستخلصه الرأسماليون من الطبقة العاملة بدون مقابل (أي أنه ذلك العمل الغير المدفوع أجره). فماركس يميز بين:
·
العمل الضروري: هو ذلك الجزء من مسلسل الإنتاج الضروري لتغطية تكاليف الأجر.
·
العمل الإضافي (أو غير المأجور): هو العمل المنجز زيادة على العمل الضروري.
ولفهم ما يقصده ماركس بفائض القيمة نعطي المثال التالي:
- لنفترض أن محمدا هو عامل يشتغل في مصنع للأحذية
- لنفترض أن محمد يشتغل ثماني ساعات في اليوم بأجر يبلغ 30 درهم للساعة
- لنفترض أن سعر كل حذاء في السوق هو 100 درهم.
- لنفترض أن محمد استطاع خلال الأربع ساعات الأولى إنتاج 5 أحذية تبلغ قيمتها 500 درهم.
يمكن تقسيم قيمة 500
درهم على النحو التالي:
- المواد الخام 250
درهم (الجلد، الخيط، الكهرباء)
- تكلفة ما ضاع أو أتلف خلال عملية الإنتاج: 10DH (استهلاك الآلات وتمزق الجلد)
القيمة الجديدة هي : DH240 = (250+ 10) – DH500.
إن القيمة الجديدة التي أنتجت خلال الأربع ساعات الأولى تكفي
لدفع أجر محمد لمدة ثماني ساعات، أي المدة الكاملة ليوم العمل. في هذه المرحلة، يكون رب العمل قد غطى جميع التكاليف بما
في ذلك تكلفة الأجور. لكن ولحدود هذه اللحظة (أي بمرور الأربع ساعات الأولى)، لم يتم إنتاج أي فائض قيمة.
لنفترض إذن أنه خلال الأربع ساعات التالية، سينتج محمد 5 أحذية أخرى بقيمة 500 درهم. ومرة أخرى سوف يتم إنتاج 240 درهم أخرى من القيمة الجديدة. لكن هذه المرة تكون تكلفة أجر محمد قد تمت تغطيتها
بالكامل، وبالتالي فإن هذه القيمة الجديدة (240 درهم) التي ينتجها محمد هي ما يسميه
ماركس ب "فائض القيمة".
في هذا الإطار يميز ماركس بين فائض القيمة و معدل فائض القيمة. فما يهم الرأسمالي ليس مبلغ فائض القيمة بل معدل فائض القيمة. فالرأسمالي يريد الحصول على أكبر ربح ممكن مقابل كل درهم
يستثمره. فمعدل القيمة هو معدل استغلال
قوة العمل من طرف الرأسمال.
بلغة أخرى : معدل فائض القيمة = فائض القيمة /الرأسمال المتغير.
من جهة أخرى يميز ماركس ما بين معدل فائض القيمة ومعدل الربح
لأن:
معدل الربح = فائض القيمة / الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.
أما ما يسميه ماركس ب "التكوين العضوي للرأسمال" والذي يعبر عن درجة تقنية الإنتاج فيحسب على الشكل التالي: التكوين العضوي للرأسمال = الرأسمال الثابت / الرأسمال المتغير
بعد هذا العرض المقتضب لأهم مفاهيم نظرية القيمة عند ماركس، يمكن القول أن محاور نظريته تتأسس على المصادرات
التالية:
-1ميز ماركس بين العمل و قوة العمل، فهو يعتبر أن ما
يشتريه الرأسمالي ليس هو العمل بل قوة العمل، بمعنى تلك القدرات الجسدية
والعصبية والذهنية التي توجد في كل كائن بشري، في شخصيته الحية. فقوة العمل بهذا المعنى هي قدرة الإنسان على الشغل، وهي قدرة يتمتع بها الإنسان في كل الأنظمة الاجتماعية
والاقتصادية.
قوة العمل هاته تحولها الرأسمالية إلى سلعة/بضاعة كباقي السلع/البضائع وتخضعها لقوانين السوق كالعرض والطلب والعقلنة والاستغلال
الأمثل. وتتحدد قيمة قوة العمل في
نظر ماركس بكمية العمل اللازم اجتماعيا لإنتاجها، أو بعبارة أخرى تساوي قيمة
قوة العمل كمية البضائع التي يحتاج إليها العامل من أجل المحافظة على وجوده واستعادة
مقدرته على العمل، أي من أجل إنتاج وسائل معيشته هو وأسرته من مأكل وملبس ومأوى ...إلخ. وعندما نقول كمية العمل اللازم
اجتماعيا لإنتاجها نعني بذلك أن كمية هذه الوسائل تختلف باختلاف
البلدان والمراحل التاريخية.
-2 يؤكد ماركس أن قيمة
البضاعة تتحدد بكمية العمل اللازم اجتماعيا لإنتاجها أي وقت العمل الضروري
لإنتاجها الذي يقاس بالزمن (أسابيع، أيام، ساعات، دقائق،
... إلخ). لكن إذا توقفنا عند عبارة "وقت العمل الضروري للإنتاج" سيبدو أن العمال الأكثر بطئا ينتجون قيمة أكبر من العمال
الأكثر سرعة، لذلك فماركس أضاف كلمة الضروري اجتماعيا لإنتاجها. "فالضروري اجتماعيا" تعني أن وقت العمل يتغير باستمرار من مرحلة تاريخية إلى أخرى
وأن متوسط وقت العمل اللازم للإنتاج يتحدد بمستوى التكنولوجيا الإنتاجية للمجتمع في فترة تاريخية محددة.
إذن ليس قانون السوق أي العلاقة بين العرض والطلب هي التي تحدد سعر السلعة،
إذا استحضرنا أن هذا السعر يميل غالبا نحو نقطة معينة، بل وقت العمل الضروري لإنتاجها. مثلا نجد دائما أن سعر السيارة يفوق سعر كيس من الدقيق.
فالدليل على أن التغير الذي يطرئ على قيمة سلعة ما (والتي تقاس بالساعات من وقت العمل الضروري اجتماعيا) هو الذي يحدد سعرها على المدى الطويل يبرزه بوضوح هذا الانخفاض
الهائل في سعر المواد الإلكترونية في السنوات الأخيرة، والذي يعبر عن الانخفاض السريع
في كمية وقت العمل الضروري لإنتاج هذه المنتجات.
-3يفسر ماركس الاستغلال الرأسمالي
كتملك لفائض القيمة الذي هو محور الصراع بين الطبقة الرأسمالية والبروليتاريا. فدرجة الاستغلال تقاس بمعدل فائض القيمة (أي العمل المجاني). والرأسماليون يقول ماركس، يبحثون باستمرار عن آليات جديدة
للرفع من معدل فائض القيمة عبر الزيادة في فائض القيمة
المطلق بتمديد يوم العمل وتشديد إيقاعه، والزيادة في فائض
القيمة النسبي عبر الرفع من كمية الإنتاج وتجميد الأجور أو تخفيضها
عندما تتاح الفرصة لذلك.
·
أكد ماركس على ما سماه بالميل
الطبيعي لانخفاض معدل الربح بالنظام الرأسمالي. فتطور النظام الرأسمالي مع ما يعنيه من تقدم تقنيات الإنتاج
يفرض تحت ضغط المنافسة الرفع السريع من حصة الرأسمال الثابت (من أصل مجمل الرأسمال) مقارنة مع حصة الرأسمال المتغير. وبما أن فائض القيمة يرتبط بالرأسمال المتغير وليس بالرأسمال
الثابت، فمن الطبيعي أن يميل معدل الربح
(أي نسبة فائض القيمة من مجموع
الرأسمال لان معدل الربح = فائض القيمة / الرأسمال الثابت + المتغير) للانخفاض.
بلغة ماركسية فالرأسمال "ذو التركيب العضوي العالي" (أي عندما يتجاوز الرأسمال
الثابت الرأسمال المتغير بنسبة تفوق نسبة المعدل الوسطي) يعطي معدلا من الربح أدنى
من المعدل الوسطي.
نذكر بأن التركيب العضوي للرأسمال = الرأسمال الثابت/ الرأسمال المتغير.
نلاحظ إذن أن ماركس لم يساوي بين كل عوامل الإنتاج (وسائل الإنتاج + قوة العمل) كما فعل آدم سميث وريكاردو، بل اعتبر أن قوة العمل هي التي تنتج فائض القيمة. فالقيمة الإجمالية لسلعة ما تتكون من الرأسمال الثابت والرأسمال
المتغير وفائض القيمة.
(القيمة = الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير + فائض القيمة)
خلاصة عامة:
لقد درس آدم سميث وريكاردو النظام الاقتصادي فبلورا نظرية القيمة-العمل وواصل
ماركس عملهما. هذا الأخير أعطى هذه النظرية
أساسا علميا خالصا وطورها بصورة منسجمة، مبينا أن قيمة كل بضاعة مشروطة بوقت العمل
الضروري اجتماعيا لإنتاج هده البضاعة. وحيث كان الاقتصاديون البورجوازيون يرون علاقات بين الأشياء
(مبادلة بضاعة ببضاعة أخرى) اكتشف ماركس علاقات بين الناس. إن تبادل البضائع يعبر عن الصلة القائمة، بوساطة السوق، بين
المنتجين المنفردين والمال (النقد) ، يعني أن هذه الصلة تزداد وثوقا، جامعة في كل واحد لا يتجزئ
كل حياة المنتجين المنفردين الاقتصادية. والرأسمال يعني تطور هذه الصلة: فقوة عمل الإنسان تصبح بضاعة لأن الأجير يبيع قوة عمله لمالك
الأرض ولصاحب المصنع. والعامل يستخدم قسما من يوم
العمل لتغطية نفقات إعالته وإعالة أسرته (الأجرة) ويستخدم القسم الآخر للشغل
مجانا خالقا للرأسمالي فائض القيمة الذي هو مصدر ربح، مصدر إثراء للطبقة الرأسمالية. فنظرية فائض القيمة تشكل حجر الزاوية في نظرية ماركس
الاقتصادية.
فإذا كان سميث وريكاردو قد فسر الاقتصاد وحركته استنادا إلى التفاعل الميكانيكي
اللاتاريخي بين مجموعة من العناصرالأولية الثابتة والدائمة مثل: الزراعة، الصناعة، الإنتاج، التبادل، الأجور، الريع العقاري،
الملكية ...إلخ، فماركس جعل هذا التفسير
تاريخيا باستيعابه نقديا وتجاوزه واقعيا وإعادة صياغته علميا. مبينا مثلا بأن العناصر الأولى ليست أولى بالضرورة في
كل مجتمع وأنها ليست ثابتة وباقية على حالها في كل مرحلة من مراحل تطورها التاريخي،
وأن نسب امتزاجها ودينامية تفاعلها تختلف اختلافا كبيرا من نمط إنتاجي إلى آخر.
السوسيولوجية الماركسية:
إن الحديث عن ماركس
السوسيولوجي أو النظرية السوسيولوجية الماركسية يستدعي الإضاءات التالية:
1 -لقد رفض ماركس استخدام مصطلح "سوسيولوجيا" كإسم للعلم الذي يدرس الاجتماع الإنساني، نظرا لارتباط هذه التسمية بالفلسفة
الوضعية لأوجست كونت التي كانت محافظة في جوهرها (كان كونت يؤمن بفكرة التقدم في ظل النظام والاستقرار)، ليفضل بالمقابل استعمال مصطلح "علم المجتمع" للدلالة على هذا الفرع المعرفي الذي حدد موضوعه في الدراسة العلمية
لتشكل، تنظيم وتحول المجتمع البشري. بلغة أخرى الدراسة العلمية للمجتمع الإنساني ككل
تاريخي متغير من خلال استجلاء القوانين العامة والخاصة التي تتحكم في تطور وتغير التشكيلات
الاقتصادية والاجتماعية، وإبراز دور العلاقات الاجتماعية الإنتاجية في تشكيل الوجود
الاجتماعي للأفراد ووعيهم.
فمن أبرز القوانين العامة التي بلورها ماركس نجد: الصراع الطبقي، العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج
(التأكيد الدائم على أهمية
البراكسيس المادي التحويلي في صناعة البشر والتاريخ)، العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية (التأكيد الدائم على ضرورة البحث عن مصدر "الفكرة"
في "الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ... الخ بدلا من العكس. أما أبرز القوانين
الخاصة أي المرتبطة بواقع اجتماعي وتاريخي معين، بنمط إنتاج محدد كما هو الشأن
بالنسبة للنظام الرأسمالي- الذي حاول ماركس وصفه وتفسير نشوئه بغرض الكشف عن خصائصه
الحقيقية والتعرف على بنياته الأساسية واستيعاب قوانين حركته الأولية وتحديد القوى
القادرة على الإطاحة به من داخل صيرورته- فنجد: العلاقة بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير (الرأسمال المتغير أي قوة العمل كمصدر فائض القيمة)، فائض القيمة كمصدر للربح (لأن قيمة قوة العمل أقل من القيمة التي تخلقها). ميل معدل الربح نحو الانخفاض، قانون البلترة أي النمو الكمي
والكيفي للطبقة البروليتارية ...
إلخ.
- 2رغم المساهمة النوعية لكارل ماركس في تطور علىم الاجتماع موضوعا
ومنهجا (المنهج المادي الجدلي)، فهناك من ينفي عنه صفة عالم الاجتماع مثل Lefèbvre Henri الذي قال في كتابه "سوسيولوجيا ماركس"
"إن ماركس لم يكن سوسيولوجيا، ولكن هناك سوسيولوجيا في كتابات ماركس"
"Marx n’était
pas sociologue, mais il y avait une sociologie chez Marx"
بالمقابل، فمعارضي
هذا الرأي الذين يعتبرون أن ماركس هو المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع، فيؤكدون أنه لا يمكن التشكيك في كون المادية التاريخية
هي سوسيولوجيا ماركسية. فنيكولاي بوخارين في كتابه
"المادية التاريخية"
يقول "إن المادية التاريخية تعتبر علما عاما للمجتمع وقوانين تطوره،
أي سوسيولوجيا. إن اعتبار المادية التاريخية
كمنهج للتاريخ لا ينقص من أهميتها كنظرية سوسيولوجية. ففي كثير من الأحيان يدلي العلم الأكثر تجريدية بوجهة نظر
(أي بمنهج) لعلم آخر أقل تجريدا منه". فكون نظرية المادية التاريخية تشكل
منهجا بالنسبة للتاريخ، لا يقلل من أهميتها كنظرية سوسيولوجية. وبالتالي فالموقع الحقيقي للمادية التاريخية، في نظر بوخارين،
لا يجب أن يكون في الاقتصاد السياسي و لا في للتاريخ، بل في العلم العام للمجتمع وقوانين
تطوره، أي في السوسيولوجيا.
3
-في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" يكتب ماركس ما يلي: "خلال الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل الناس في علاقات محددة
ضرورية ومستقلة عن إرادتهم".
إن هذه الجملة تكثف
الموقف الماركسي من إحدى أهم إشكالات السوسيولوجيا وإحدى أكبر رهاناتها الابستيمولوجية
والميتودولوجية. يتعلق الأمر بإشكالية علاقة
الفرد بالمجتمع أي علاقة الفاعل بالبنية، علاقة الحرية بالضرورة، علاقة الفاعلية الإنسانية
بالحتمية القدرية، علاقة إرادة الناس بإكراهات وضرورات الواقع.
هذه الإشكالية يمكن اختزال
أبعادها في الأسئلة التالية: لفهم ظاهرة اجتماعية معينة
هل يجب الانطلاق، في إطار عمليات البناء والتحليل، من محدداتها العامة والشاملة التي
تنتجها، أي من الواقع في كليته، أم يجب الانطلاق
من السلوكات الفردية ومن المعنى الذي يضفيه الفاعلون عليها؟ هل التنشئة الاجتماعية،
الضبط الاجتماعي، علاقات السيطرة، الدور الاجتماعي، الوضع الطبقي، المعايير الثقافية
المشتركة، القيم المهيمنة، المعتقدات، الانتظارات الاجتماعية، المحرمات والطابوهات
... إلخ هي الكفيلة لوحدها بتفسير
سلوك كل فرد، أم يجب الإمساك بتجربته المعاشة، بمنطقه الخاص، بمبادراته، باختياراته،
بحسابه العقلاني المؤسس على لغة للربح والخسارة، بإستراتيجيته الخاصة ... إلخ.
فالإجابة عن هذه الأسئلة تفرز اتجاهين ابستيمولوجيين وميتودولوجيين مختلفين،
أي تصورين مختلفين في التحليل والمقارنة:
·
التصور الميكروسوسيولوجي (الجزئي): يؤكد أن التحليل السوسيولوجي
يجب أن ينطلق من الفرد (لهذا فإن هذا التصور يسمى
بالفردانية المنهجية) لأنه هو الذي يمنح للظاهرة
الاجتماعية شكلها وبناءها. وبالتالي فإن التحليل يجب
أن يركز على الوحدات الصغرى (أي الجماعات الصغرى، التفاعلات
البيفردية interpersonnels، المفاوضات
التي تجري بين الفاعلين الاجتماعيين محاولين استجلاء تضارب أسباب الفعل الفردي وتعدد
دلالاته الاجتماعية بالنسبة للفرد أي استجلاء المعنى الذي يضفيه الفاعل على سلوكه. فهذا التصور (الميكروسوسيولوجي) يعترف بقدرة الفرد على المبادرة،
على الاختيار، على الحساب العقلاني. وبالتالي فهو يعطي الأولوية
للفاعل ومنطق فعله في تشكل البناء الاجتماعي على حساب الأسس الأنتروبولوجية العامة
للمجتمع، لأن الأفراد في منظور هذا التصور، يمتلكون قدرة كبيرة على إعادة تملك هذه
الأسس (قيم، معايير، معتقدات، طابوهات
اجتماعية ...إلخ) ، إعادة تأويلها، وإعادة صياغتها لجعلها تتناسب مع أهداف الفاعل. بلغة أخرى فالأفراد يمتلكون قدرة كبيرة على مناورة، مراوغة وخرق هذه الأسس
بشكل "مقبول" اجتماعيا لأنهم ليسو بآلات أوتوماتيكية مبرمجة بواسطة المجتمع،
ليسوا نتاجا خالصا لتنشئتهم الاجتماعية بل
هم قادرون على صنع تاريخهم والتأثير في بيئتهم.
·
التصور الماكروسوسيولوجي (الشامل والكلي
holiste ): يقر بأسبقية المجتمع على الفرد لأن هذا المجتمع هو واقع موضوعي
يربى وينشأ اجتماعيا . بالتالي فإن دراسة ظاهرة معينة يجب أن ينطلق من استجلاء
الخصائص الشاملة للمجتمع وتبيان خصائصه أي التعرف على المحددات والشروط السوسيواقتصادية
والثقافية العامة التي تفرز هذه الظاهرة. فالسلوكات الاجتماعية لا يمكن اختزالها في الحصيلة العامة لمجموع السلوكات
الفردية، لأن الكل يفيض عن مجموع أجزائه أي
أن الكل ليس هو محصلة مجموع هذه الأجزاء، بل شيء أكبر من ذلك.
La
société est un tout qui est supérieur à la somme de ses parties
لهذا، فهذا التصوريعطي للمجتمع قدرة تفسيرية كاملة، يماهي
بين الفاعل والنسق، ويفترض أن الفعل الاجتماعي ليس سوى تنفيذا لمعايير، قيم مؤسساتية
وأدوار يتم استدخالها واستبطانها من طرف الأفراد. وبالتالي فالتحليل السوسيولوجي يجب أن ينطلق من دراسة الأشكال
الاجتماعية الكبرى، البنى، الأنساق، المنظمات، المؤسسات الكبرى لإبراز دورها في تشكيل
وتحديد مضامين ومعاني السلوكات الفردية لأن المجتمع يشمل ويتجاوزenglobe et
excède الفرد.
فالاختلالات التي يعيشها مجتمعا ما، في منظور هذا التصور،
لا تعود إلى هفوات الأفراد وأخطائهم وإنما تكمن في طبيعة النظام الاجتماعي .بالتالي فالبحث السوسيولوجي
يجب أن يركز على تحليل منطق وقوانين هذا النظام لمعالجة هذه الاختلالات.
طبعا، لا يمكن أن ننسى أن ماركس قد كتب في مقدمة "رأس المال" ما يلي: "حتى لو كان مجتمع ما قد وصل
إلى كشف طريق القانون الطبيعي الذي يشرف على حركته (...) فلا يستطيع أن يتجاوز بطفرة أو يحطم بمراسيم مراحل نموه الطبيعي،
إلا أن بإمكانه أن يختصر حقبة مخاضة ويلطف آلام الولادة".
هذا التعريف يظهر أن منطق التمرحل في النمو المجتمعي لا يقوم بإصدار المراسيم
ولا بالحتمية التطورية، ذلك أن قانون التمرحل المجتمعي ليس من الرخاوة بحيث تتحكم فيه
الإرادة الإنسانية وحدها، وليس من الصرامة بحيث يلغي إمكانية الطفرة والاختصار. هذه الطفرة لا يقوم بها الفاعل-الفرد بل الفاعل الجماعي أي
الطبقة الاجتماعية، لأن ماركس لا ينظر للفرد إلا داخل طبقة اجتماعية. فالعلاقات الاجتماعية هي علاقات طبقية بالأساس، أي أنها ليست
علاقات بين فرد وآخر وإنما علاقات بين عامل ورأسمالي في المجتمع الرأسمالي مثلا، وبين
مزارع ومالك عقاري في مجتمع إقطاعي أو شبه إقطاعي. فالعلاقات الاجتماعية متمحورة حول
الطبقات الاجتماعية، والناس يصنعون تاريخهم ولكن كطبقة اجتماعية محددة بنوع نمط الإنتاج
السائد في مجتمع ما وليس كذرات اجتماعية. طبقة اجتماعية حاملة لوعي طبقي و بالتالي واعية بدورها التاريخي
الطلائعي (أي طبقة لذاتها pour soi وليست طبقة في ذاتها en soi).
عموما، يمكن القول أن النظرية الماركسية هي نظرية ماكروسوسيولوجية كلية وشمولية
ترى أن التحليل السوسيولوجي يجب أ ينطلق من الوحدات الشمولية الكلية أي من الواقع المادي
والتشكل الموضوعي الذي يحدد في النهاية سلوكات وقيم الأفراد، نزولا إلى الوحدات الصغرى. فلفهم طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمع ما يجب أولا تحديد نمط الإنتاج السائد فيه. فالكل الاجتماعي عند ماركس
لا يتألف من أجزاء متفاعلة تحدد طبيعته فحسب، بل تتحدد طبيعة الأجزاء أيضا وفق تأثير الكل ذاته على أجزائه وفعاليته فيها. ولا يجمع الكل الاجتماعي عنده،
عناصره المؤتلفة في وحدة وظيفية متماسكة تعيد إنتاجه فحسب، بل يضم أيضا أجزاءا متناقضة
وقوى متناحرة وميولات متصارعة تدفع به إلى أبعد من مجرد إعادة إنتاج نفسه أي إلى أن
يصير غير ما هو عليه الآن. فكل عناصر التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية (أي المجتمع) تشكل كلا واحدا متلازما لأنها على اتصال ببعضها البعض (نذكر هنا بقوانين الديالكتيك وخاصة قانون وحدة وصراع الأضداد
وقانون الصيرورات المتبادلة).
4
- يقول ماركس:
"خلال الإنتاج الاجتماعي لوجودهم يدخل الناس في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، في علاقات
إنتاجية تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية". فحديث ماركس عن "العلاقات الإنتاجية" تعني أن جوهر وطبيعة العلاقات الاجتماعية لا يمكن استشفافه
واستجلاؤه إلا من خلال معرفة الطريقة التي ينتج بها الناس الوسائل التي يحتاجون لها
للبقاء على قيد الحياة، أي لضمان وجودهم. فالعلاقات الاجتماعية هي علاقات تسعى للاستجابة إلى حاجات معينة، لأن الرابط
الاجتماعي هو في جوهره رابط اقتصادي. فماركس ينطلق من الإنسان الملموس "الإنسان الواقعي" الذي يحاول الاستجابة لحاجاته. هذه الاستجابة لا يمكن أن تتحقق إلا عبر ومع أفراد آخرين. فالعلاقات الاجتماعية هي علاقات طبقية بالأساس أي هي علاقات
بين طبقات اجتماعية تحدد انطلاقا من الموقع الذي تحتله في مسلسل الإنتاج ومن علاقتها
بوسائل الإنتاج. فتصورات الأفراد وتمثلاتهم
لا يمكن تفسيرها الا بالرجوع إلى طبيعة التنظيم الاقتصادي للمجتمع، إلى القاعدة الاقتصادية
التي يسميها ماركس بالبنية التحتية. فانطلاقا منها (أي البنية التحتية) يمكن تفسير الأفكار القانونية، السياسية، الفلسفية، الدينية،
الإبداعية الفنية... وهو ما أشار إليه ماركس بالعبارة
التالية." يشكل مجموع العلاقات الإنتاجية،
البناء الاقتصادي للمجتمع والأساس الفعلي الذي يقوم عليه البناء الفوقي القانوني والسياسي
والذي تطابقه أشكال اجتماعية محددة من الوعي".
إجمالا، فسوسيولوجيا ماركس ترتكز على تصور اقتصادي للعلاقات بين الكائنات
البشرية. فالاقتصاد هو المحدد النهائي
للكل الاجتماعي، هو الذي يفسر الدينامية المجمعية ويفسر التغيرات الاجتماعية. فالتناقضات الطبقية التي هي
تناقضات بين مصالح اقتصادية لقوى اجتماعية مختلفة هي التي تفسر السياسة، القانون، الأخلاق... وليس العكس لأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي
وليس العكس.
5
- إن ما يميز السوسيولوجيا الماركسية هو تأكيدها على أهمية النزاعات،
التوترات والصراعات في تجديد دينامية المجتمع ودفع عجلة التاريخ إلى الأمام
. فالمجتمع هو في تحول دائم
ومستمر أي أن تطور التشكيلة المجتمعية والاقتصادية هو صيرورة تاريخية طبيعية.
فمنبع التغير هو الدينامية الذاتية للأشياء والظواهر، لأنه (أي التغيير) ليس سوى المنتوج الموضوعي والطبيعي للصراع بين العناصر المتناقضة. هذا الصراع هو الطريق الملكي للأحداث التغيرات الاجتماعية
والتاريخية. بهذا المعنى فالنظرية
السوسيولوجية الماركسية هي نظرية صراعية ونزاعية بامتياز. فهي تعتقد أن الثابت (أي الدائم) هو الصراع، النزاع، التناقض،
أما المتغير (أي المؤقت أو العرضي) فهو التوازن ، الاندماج والاستقرار.
فعندما تتحدث عن الصراع فهي لا تتحدث عن صراع فكري نظري مجرد بين الطبقات الاجتماعية
بل عن صراع حول مصالح طبقية موجودة في الواقع، أي تجد أرضيتها المادية في التوزيع غير
المتكافئ للخيرات الإقتصادية والرمزية داخل مجتمع ما. فتاريخ المجتمعات البشرية هو تاريخ تعاقب أنشاط الإنتاج وهو
تاريخ الصراع الطبقي الذي لن يختفي إلا باختفاء علله وأسبابه، أي بالتوزيع العادل للثروات بين بنو البشر الذي يتحقق
بعد اختفاء الطبقات الاجتماعية أي عبر تحقيق
المجتمع الشيوعي.
فتاريخ المجتمعات البشرية هو تاريخ التناقض الرئيسي بين كتلتين اجتماعيتين متعارضتين
: المستغلين ( مالكي العبيد في المجتمع العبودي، الأسياد في المجتمع الإقطاعي
والعمال في المجتمع الرأسمالي) والمستغلين (العبيد، الإقنان، العمال). إنه تاريخ التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، الذي
يؤدي، في صيرورة طبيعية، إلى أزمات اقتصادية واجتماعية، لا يمكن حلها إلا بتغيير نمط
الإنتاج أي بالثورة التي تعتبر الميكانيزم الأساسي لتغيير المجتمعات البشرية.
مثلا : فالعلاقات الفيودالية (الإقطاعية) المؤسسة على القنانة التي
تجرد المنتج الحقيقي (أي القن) من أبسط حقوقه مثل حق التنقل، هي عرقلة حقيقية في وجه التطور
التقني، الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الإنسانية وبالتالي فهي محكومة
بالزوال لتترك مكانها لعلاقات إنتاجية أكثر رحابة وأكثر استيعابا لتطور القوى المنتجة
أي العلاقات الرأسمالية.
بالمقابل إذا كانت البرجوازية قد استطاعت أن تحطم النظام الإقطاعي لتبنى على
أنقاضه نظاما رأسماليا مؤسسا على حرية المنافسة، حرية التنقل، المساواة القانونية بين
الناس...إلخ فهذا النظام، بالعلاقات الاجتماعية الإنتاجية التي
يرسيها، سيصبح عرقلة حقيقية في وجه تطور القوى المنتجة بسبب التناقض الأساسي الذي يعتمل
بداخلة أي التناقض بين الطابع الجماعي للإنتاج الذي هو حصيلة العمل الذهني
واليدوي لملايين العمال المأجورين الذين تحولت قوة عملهم إلى بضاعة، والطابع الخاص
لتملك منتوج هذا الإنتاج الذي تسيطر عليه حفنة من المالكين عبر فائض القيمة.
هذا التناقض لا يمكن تجاوزه، في نظر الماركسية، إلا بإلغاء الملكية الخاصة، بسيطرة المنتجين الحقيقيين
على وسائل الإنتاج، بالقضاء على الطبقات الاجتماعية (ليتحول الصراع من صراع بينها إلى
صراع مع الطبيعة) ، وأخيرا بإرساء ديكتاتورية البروليتاريا. بلغة أخرى بتحقيق المجتمع الشيوعي.
[1]
Raymond Aron : L’opium des intellectuels. Paris, Calmann-Lévy, 1955
[2] "العبد والسيد يعبر عن التناقض الهيجلي:
جرت معركة بين شخصين، يقول هيجل، يبحثان عن الاعتراف. الواحد ينتصر والآخر يصبح عبدا لكي لا يقتل.
في هذه اللحظة يقول هيجل" ان الخوف من السيد هو بداية الحكمة".
La crainte du
maître est le commencement de la sagesse » « مع مرور الوقت منطقيا سيحاول السيد أن يحافظ على وضعه وامتيازاته لكي لا يضيعها،
يريد أن يبقى سيدا. لكن بالمقابل، فعمل
العبد سيحرره وسيعي قوته وسلطته. فقوة العبد هي أن
السيد سيصبح مرتبط به dépendant de lui بسعيه الدائم لأن يبقى دائما سيدا.
إذن التناقض الهيجلي هو أن السيد أصبح عبدا. فالسيد قبل accepta
المخاطرة بحياته من أجل الاعتراف، أما العبد سيخاف وسيفضل أن
يخضع وأن يعيش عبدا بدل أن يموت. لكن هذا العبد يمكنه دائما أن يتحرر لأنه يعمل، أي على احتكاك مباشر مع الطبيعة.
أما السيد سيستنجد بجسد العبد ليغير الطبيعة.
هكذا بعمله لصالح السيد يقوم العبد بكبت رغباته،
ولكن في قلب هذا الاستيلاب يغير العالم المضني هو الوسيلة الموجودة في يد العبد للدخول
في نضال تحريري أي النضال من أجل الاعتراف لأن إرادة ما تصبح حرة فقط بالعمل المضني.
لكن ما معنى الإرادة الحرة؟ فالاعتباطي l’arbitraire الذي يسمح لنا بفعل ما نريده هو مضاد
للحرية لأن الحرية هي حرية حينما تكون حاملة لمضمون ما.
عوض الحديث عن الواجب يتحدث هيجل عن الحق.
قد يبدو لنا أن الأخلاق تسمح بفعل أشياء لا يسمح
بها القانون، لكن لكي يكون سلوكا ما أخلاقيا من الضرورة التعرف على ما إذا كان هذا
السلوك عادلا أم لا، لأن احترام القانون مهم
جدا في أي مجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق